من أهمّ مزايا كتاب ناجي الزعيري الموسوم ب«أنا خاتم العاشقين» الصّادر عن «منشورات كارم الشريف» بعثه لأدب الترسّل من رماده، واحياؤه لشكل في الكتابة طواه النسيان منذ زمن بعيد. وفنّ الترسّل من الفنون التي كانت لها في أدبنا العربي القديم حظوة كبيرة لا تقلّ عن الحظوة التي كانت لفنون القول الأخرى، ولعلّ ذلك يرتدّ الى طرافةهذا الشكل الذي يحّول الأدب الى «رسالة»والكاتب الى «مرسل» والمتقبّل الى «مرسل اليه». ومن خصائص الرسالة أنّها توهم دائما قارئها أنها خطاب حميم، يتّجه الى متقبّل معلوم، تخاطبه «هو» دون سائر الناس. فثمّة بين المرسل والمرسل اليه أسرار لا يريد الطرفان افشاءها بين الناس. انّها أسرارهما ولا حقّ لأيّ كان أن يستبيحها أو يطّلع عليها. بسبب من هذا يهيمن في الرسالة ضميران اثنان هما ضميرا المتكلّم والمخاطب فيما تغيب الضمائر الأخرى وتختفي...فالمخاطب منشغل بالمخاطب عمّن سواه يحاوره ويسائله ويعقد وشائج لغويّة معه. بهذه المعاني ترهص عبارة «الرسالة» وهذه المعاني، على وجه التحديد، هي التي تدفعنا الى قراءة الرسائل، الى معرفة أسرارها وخفاياها. وكأنّ القراءة تلصّص، هتك لما استخفى واستسرّ والواقع أنّ كل هذا ضرب من الإيهام الفنّي فالرسالة في الأدب العربيّ لا تخفي بل تكشف ولا تدور حول موضوع مخصوص وانّما تدور حول مواضيع شتّى، ولا تتجه الى شخص معلوم وإنما تتجه الى القارئ على وجه الإطلاق والحقيقة لهذا يمكن القول ان الرسالة شكل قبل كل شيء، أسلوب في الكتابة وطريقة في انشاء القول وتصريفه. لاشك أن فنّ الترسّل، على طرافته، قد فقد حضوره القويّ في الأدب العربي المعاصر، بآستثناء بعض النصوص التي استدعت هذا الشكل القديم، وأرادت بعثه من جديد. لهذا أقبلت على هذه النصوص أقرؤها بفرح كبير، فقد أعادت الى الذاكرة رسائل كثيرة كنا قرأناها في مراحل مختلفة من حياتنا وتركت في نفوسنا أثرا قويّا. وهذه النصوص هي من قبيل الرسائل التي آختارت أن تسترفد الشعر توظّف طاقاته المجازية والايحائية الكبيرة، فهي نصوص مكثّفة، مكتنزة تقول المعنى الأكثر في اللفظ الأقل متوسّلة بالتلويح بدل التصريح وبالاشارة بدل العبارة. فاللغة هنا تنهض بوظيفة تأثيريّة مستخدمة الصّورة والرمز، وربّما توسّلت بضرب مخصوص من الايقاع يقوم على ترديد بعض الأصوات، أو بعض الصيغ، أو التراكيب... هذه النصوص العاشقة تدور حول «مقامات» العشق، ومعارجه، يصفها الكاتب وصف من كابدها، وتمرّس بمختلف أحوالها. في هذا السياق استدعى الكاتب لغة المتصوّفة لأنها الأقدر على الافصاح عن غائر مشاعره وخبيء أحاسيسه. ولغة المتصوّفة هي لغة «الحال» أي لغة «الداخل» لا «الخارج» ليس لها من وظيفة سوى اقتناص ما يدور داخل النفس في شباك اللغة..... وهذا ما سعت اليه لغة الكاتب، وقد تمكّنت، بالفعل، من القبض على هذه الحال التي تستعصي على القبض فكانت هذه العبارات الجميلة التي اقتطفتها من هذه الرسائل - لا شيء يساوي شدّ الرّحال نحومن نحبّ حتى لوشقينا بهذا الترحال - استبهمت عليّ حالي - مثل خريف لم تخمد نيرانه، وفيضان لم تنحسر مياهه أعود الى الكتابة. - أنت المعنى الوحيد بعد فساد اللغة. - ( أطلب ) طمأنينة قلقة. - في القلب مساحات لا سلطان له عليها قد يضيق فيها اللفظ أحيانا ويتّسع المعنى. - ضل ّالطريق الى رأس الحكمة. - حاولت المضيّ بالكلام الى أقاصيه. - منذ أربعين عاما ما أحزنني الا طلوع الفجر. - أشفقت عليك مني. - العصافير تختبئ لتموت. - كم أصبح الكلام مرهقا... ليس فيه انتصار أوهزيمة. هكذا يتحوّل النثر الى شعر وتتحوّل الرسالة الى قصيدة... وتتحوّل المجموعة الى كتاب في فنّ الترسّل... في فنّ العشق.