يوضّح التحليل المتقدّم أن العولمة بمضمونها الرأسمالي تشكّل خطرا محدقا بالبلدان الضعيفة العاجزة حاليا عن تنمية نفسها وتطوير قدراتها الاقتصادية، إذ هي تعاني من الضغوط المتنوعة التي تمارسها عليها الدول الرأسمالية الكبيرة. وقد تذهب هذه الدول في ممارسة ضغوطها إلى حدّ الإطاحة ببعض الحكومات كما حصل مع الحكومة الفنزويلية في السنوات الماضية، وقد تمكّن رئيسها الشرعي من العودة إلى منصبه بفضل مساعدة أنصاره. وقد يذهب الأمر بهذه الدول إلى حد العدوان والاحتلال كما هو الحال بالنسبة للعراق الذي رأت فيه أمريكا عقبة إقليمية تحول دون إستراتيجيتها الجديدة في الهيمنة على العالم. هذه العولمة الرأسمالية لا ضوابط لها ولا تحفل بأيّ شرعية أو قوانين دولية.ولذا سماها سمير أمين عولمة غير منضبطة تهدّد العالم اقتصاديا وسياسيا بالفوضى والارتباك وتفجّر الأزمات. وبالنسبة لبلدان العالم الثالث أو النامية حسب المصطلحات التي كانت شائعة يمكن حوصلة المخاطر المحدقة بها في النقاط التالية: 1 دمج اقتصادياتها في البنية الاقتصادية الرأسمالية للعولمة عن طريق الشركات المتعدّدة الجنسيات ومنظومة البنوك ومنظمة التجارة العالمية وعن طريق هذا الدمج وغيره من الطرق الأخرى يتمّ استنزاف خيراتها وثرواتها الوطنية، كما يقع أيضا ابتزاز الجهد الوطني الذي بذل في كثير من المشاريع العمومية عن طريق التفويت فيها للأجانب. 2 إرباك مشاريع التنمية وتعطيلها والكفّ عن متابعة سياسة المخططات السابقة الهادفة إلى التقليل من الاستيراد من ناحية والى تحقيق الاكتفاء الذاتي على مراحل من ناحية ثانية، وذلك بسبب كفّ الدولة عن القيام بواجباتها في إنجاز المشاريع العمومية وفي حماية الاقتصاد الوطني من الأضرار الخارجية. 3 إضعاف المنجزات الاقتصادية التي تمّ إنجازها. فهناك مؤسّسات أغلقت، وهناك مؤسّسات أخرى عمد أصحابها إلى تحويلها من مؤسّسة منتجة تقوم مثلا بتركيب أنواع من الأجهزة إلى مؤسّسة استيراد. وهذا أمر يضعف الإنتاج الداخلي ويزيد في حجم الاستيراد الخارجي المرهق لميزان الدفعات وللطاقة الاقتصادية للبلاد. 4 خصخصة القطاع العمومي في مجالي الإنتاج والخدمات، وهو قطاع لجأت إليه الدولة في مواجهة حالة التدنّي التي كانت عليها البلاد اثر الاستقلال. وقام هذا القطاع بدور رئيسي في التنمية وتطوير القدرات الذاتية، إلا أن العولمة بقلبها للموازين جعلت من الليبرالية الجديدة المنحى العامّ للحياة الإنسانية، واعتبرت الاقتصاد وحتى التنمية من مشمولات القطاع الخاص. وبهذا صارت الخصخصة سبيلا عالميا لتحرير الاقتصاد في كلّ البلدان. وبدأ السير في هذا المنهاج عن طريق ربط البلدان ذات القطاع العامّ بالبنية الاقتصادية الرأسمالية للعولمة. وفي تونس على سبيل المثال بدأ الانخراط في الخصخصة منذ سنة 1988 وتحول إلى اختيار لا محيد عنه، عندما أمضت تونس اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 17 جويلية 1995 وانخرطت في المنظمة العالمية للتجارة، وهي بهذا انضمت رسميا إلى السوق العالمية وخضعت، بالطبع إلى متطلّبات العولمة، وانتهجت سبيل الخصخصة. في المرحلة الأولى كانت الخصخصة في المؤسّسات المتوسطة، لكن في سنة 1998 (42) تغيّر الأمر وشملت المؤسّسات الكبيرة الحجم فهناك: 80٪ من العمليات انحصرت في ثلاثة قطاعات: موادّ البناء، السياحة، والتجارة.(43) 70٪ من العمليات أدّت إلى الخروج النهائي من القطاع العامّ في شكل تخصيص تامّ أو تصفية (44) والى سنة 2001 تمت خصخصة 147 مؤسّسة(45) وخطورة هذا التوجّه لا تكمن في التفريط في القطاع العامّ فقط وإنّما أيضا في تشريك الأجانب في الاستيلاء على الاقتصاد الوطني عن طريق هذه الخصخصة غير المشروعة. فقد سمح أمر 1997 للأجانب بأن يقتنوا 50 ٪ من رأسمال شركة تونسية، وهي نسبة يمكن تجاوزها بترخيص من اللجنة العليا«.(46) وتمشيا مع هذا الإجراء فقد »اشترى هؤلاء حتى موفى سنة 2000 ما لا يقل عن 67٪ من رأسمال الشركات التي تم التفويت فيها« (47). وعملية استيلاء الأجانب على الاقتصاد الوطني لم تقتصر على ما ذكر فحسب، أي على شراء المؤسّسات العمومية وشراء نسب كبيرة من رأسمال الشركات التونسية، بل شملت أيضا بعث مؤسّسات جديدة في سنة 2001 بلغت« 2243 مؤسّسة أجنبية منها 1616 مؤسّسة تصديرية بصفة كلّية (48). وهذا التفويت (*) للأجانب شمل القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية مثل الاسمنت (**) وهذا النوع من التفريط كان مرفوضا في السابق ويعتبر من قبيل الخيانة الوطنية. هذه الخصخصة غير المشروعة رافقتها عملية تسريح واسعة للعمال. فالإحصائيات تذكر أن التفويت للأجانب أدّى إلى إلغاء ما بين 35 و 50٪ من مواطن الشغل»(49) وبالنسبة لتسريح العمال بصفة عامة ذكرت إحدى الدراسات أن نسبة العمال الذين استغني عنهم __________________________________________ ( *) التفويت : لفظة مستعملة في تونس، وهي تعني إنهاء ملكية الدولة أو غيرها بالبيع أو غيره وبذلك تنتقل ملكية المفوة فيه إلى طرف آخر. (**) شمل التفويت معامل الاسمنت بالنفيضة وجبل الوسط وقابس وجبل الجلود أنظر إشكالية التخصيص والتنمية...المصدر المذكور بالهامش 42 ص 42. تتراوح حسب المؤسّسات ما بين 35٪ و 60٪ .(50) وهكذا يتمّ في هذه المرحلة، عن طريق الخصخصة تحويل الاقتصاد التونسي وغيره من اقتصاديات البلدان المماثلة، من اقتصاد موجّه ومحميّ إلى اقتصاد يعتمد تحرير السوق الداخلية والاندماج في البنية الرأسمالية للاقتصاد العالمي للعولمة. 5 الخصخصة لا تؤدّي إلى الاستيلاء على الاقتصاد الوطني فحسب وإنّما أيضا إلى الاستحواذ على سلطة الدولة والتحكّم في القرار السياسي وفي مصادر التشريع. ومن هنا وجدنا الدولة تقوم بالدور الأساسي في عملية الخصخصة وبالتفويت في القطاعات العمومية وتسمح للخواصّ بالتراجع قي التشريعات التي سنت لفائدة الشغيلة وحمايتها سواء في ميدان الشغل أو فيما يتعلق بالضمانات الاجتماعية والتأمين على المستقبل وغير ذلك. ومن الأسباب التي جعلت الخواصّ يصولون ويجولون، ضعف المنظمة النقابية وتدجينها. فقد تحوّلت كما هو الحال في تونس من طرف أساسي في الاختيارات الاقتصادية للبلاد إلى مجرد منظمة مطلبية غير قادرة على الدفاع عن مصالح منظوريها. وإذا أضفنا حالة التدنّي النقابي إلى حالة تدنّي الأحزاب والمنظمات الوطنية تتّضح لنا ملامح تأزّم الوضع القائم وما ينذر به من مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية وعواقب قد تكون وخيمة على الجميع. 6 البلدان النامية أو بلدان العالم الثالث المدمج اقتصادها في النظام العالمي للعولمة معرّضة في أيّ لحظة إلى أن تعصف بها أزمة غير متوقّعة ناجمة عن عدم التحكّم في السيولة النقدية التي يمكن سحب جزء منها إلى الخارج إذا لم تكن هناك إجراءات على مستوى البنك المركزي تحول دون ذلك، فعملية السحب في غياب الإجراءات سهلة ويمكن أن تتمّ في وقت وجيز. وهذا بالطبع يؤدّي إلى العجز المالي والى حدوث أزمات قد تكون مهلكة. 7 لقد أدى دمج اقتصاديات البلدان المهيمن عليها في البنية الرأسمالية للعولمة إلى تفكيك المؤسّسات العمومية والى المزيد من التدهور الاقتصادي والانحطاط العامّ في الحياة الاجتماعية. والنتيجة المباشرة لهذا التحوّل العالمي الخطير ازدياد تركز الثروة في يد قلّة من الناس ومن الدول وعلى حساب الغالبية العظمى من البشر. فهناك 358 ملياردير يمتلكون معا ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة، أي أنّها تضاهي ما يملكه نصف سكان العالم وهناك أيضا 20 بالمائة من دول العالم هي أكثر الدول ثراء وتستحوذ على 84.7 بالمائة من الناتج العالمي، وعلى 84.2 بالمائة من التجارة الدولية، ويمتلك سكانها 85.5 بالمائة من مجموع مدخرات العالم. والإحصائيات المتداولة حول هذا الموضوع كثيرة، منها أن 1.2 مليار من البشر يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم. فالعولمة الرأسمالية ما هي إلاّ استيلاء على الثروات وتعميم الفقر وامتهان الشعوب والعدوان عليها والتدخّل في شؤونها وإرباك حياتها العامة وتلوث بيئتها الطبيعية.