سألني البارحة صديق شاعر عن النوم: قلت له إنه أكبر سلطان في العالم. فهو سلطان كبير بلا تاج يطيح بالملوك ليلا. والنوم نوعان: نوم بالليل ونوم بالنهار. فأمّا النوم بالليل فهو الطبيعي الذي لا يغلبه أحد وأما النوم بالنهار فهو الغفلة والاستغفال والضحك، لأنه خروج عن الطبيعة. إذا كنت نائما في النهار فأنت في غفلة من نفسك قد استغفلك النهار وضحك عليك. والليل أقرب الأشياء الى النوم فهو رديفه وصِنْوُه وسَمِيُّهُ، ملتصق به لا يعبر الا منه إذا كان من العادة والطبيعة. فإذا طال نوم الرجل قيل طال ليله ومن طال ليله كان مسهّدًا متفجّعا من الهجر أو الغمّ أو كثرة الدّيْن. ومن قَصُرَ ليله فهو في دَعَةٍ من أمره ممتلئ بالحركة في النهار مقبل على الحياة متعلق بالمعيش وأسبابه. غير ان ليل الشاعر والكاتب ليل مختلف، فإن طال ليله فهو مفكّر بالكلمات والأفعال والأسماء والحروف والتراكيب والصور والشخصيات والمشاهد والأمكنة والأزمنة... وليل الشاعر طويل طالما سهّدته القصيدة وحرمته من النوم فإذا نسجها نام بعدها هانئا أبدا. II للّيل علاقة وطيدة بالنوم لكنه ارتبط في الثقافة العربية بالخديعة والدّسائس والمكر. فقد قالت العرب »أمرٌ دُبّرَ بِلَيْلٍ« لأن ما يُنجز بالنهار يقع نسجه في الليل، إذا كان الأمر متعلقا بالمكيدة والخديعة والدّسيسة. وقالت العرب أيضا »ما أشبه الليلة بالبارحة« إذا تكرّر حدوث شيء مماثل في زمن ومكان مختلفيْن. III وارتبط الليل بالسّكينَة والهدوء والصمت. فقد قيل: »ليل قاتل« أي شديد الحُلْكة والصمت. كما ارتبط الليل بالسرّ والكتمان والتهجّد والتعبّد والتّسبيح. حتى أن مناجاة الله تتم في الليل. فمن المتعبدين من قضّى ليله قائما يذكر الله ويستغفره ويطلب عونه. وقسّم الله الوقت الى ليل ونهار، فجعل الأول سُبَاتًا ونومًا وجعل الثاني حركةً ومعاشًا. وتفنن الشعراء في ذكر الليل. وأشهرهم أمرؤ القيس »وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله«. فقد شبّه الليل بالماء لكثرته وامتداده. وللّيل قوة لا تُضاهى، إذ هو ليل العاشقين الممتلئين صبابةً وعشقًا متْرعينَ بكؤوس الهوى. IV أردت الحديث عن الليل لأنه من قُوى الطبيعة أولا ولأنه مرتبط بأحلام الكائن ثانيا. فالكائن هشّ حالم في الليل والنهار وحلمُ الليل أعمق وأكثر امتدادا وأوسع أفقا. وما حُلُمُ هذا الكائن الا حُلُمُ فراشة أو عصفور. فإذا حَلُمَتْ فراشة واحدة حُلُمَهَا في الليل قدحت للشعراء ألفَ قصيدة. وإذا حَلُمَ عصفور حُلُمَهُ سبحت آلافُ الكلمات في ليل الشعراء. لذلك كُلّهِ كنت أسأل أصدقائي في كل قصيدة: »هل عثرتَ على الليل؟« أو »من الطّارقُ في هذا الليل؟«. فليبحثْ كل شاعر عن ليلهِ. وليبحث حاملو الكلمات عن أحلامهم لأن العصافير والفراشات سبقتهم الى الغناء في الأعالي. هناك حيث يحملون الفوانيس في لجّة الليل. هناك حيث يرتجف الأطفال من البرد وقد تحوّلوا الى كتل لحميّة وتماثيل بلورية حمراء. لم أجد شيئا آخر يليق بهذه العتمة التي تعمّ العالم وتلفّه كما لم تلفّه من قبل... ومن تلك الليالي الأشدّ إعتاما يخرج الضوء ويطلّ الصباح من وراء القرون. (...) إلى المجد أيها الأطفال... ها أنا ألعنُ أصابعي التي سقطت في خواء بارد وليل قاتل، تحوّل فيه الشعراء الى جُثث هامدة بما فيها هذه اللعينة: جثتي!