اجتمعت في قاعة »الفنّ الرابع« صباح السبت الثاني والعشرين من جانفي المبارك، نقابات فنية تونسية مختلفة لقراءة الأوضاع السياسية أو الراهن السياسي إن صحّ التعبير بعد حدوث ثورة مفاجئة في الظاهر ولكنها حسب رأيي ثورة حدثت بعد تراكمات نضالية في عديد المستويات. وتطرقت هذه النخب المزعومة يومها الى العراقيل والمعوّقات التي كانت تعاني منها الأعمال الفنية لكنها لم تذهب بعيدا في التفصيل والتدقيق فظلت تدور حول بيانات مساندة ذكّرتني بصكوك المناشدة التي اجتاحت تونس أثناء الحكم النوفمبريّ. إني مع هذه النقابات الفنية في انتصارها المبدئي واللامشروط لقضايا الشعب، فانتصارها لنبض الشارع واجب وأمر محمود رغم تأخره لسنوات طويلة. لكنه لم يكن كافيا في نظري لأنه اقتصر على سبّ أشخاص سيطروا على المشهد الفني والثقافي أيام عملهم في البلاط السُنْدسِيّ! فلم يحمل نداؤهم مشاريع ورؤى فنية حقيقية تجعل هذا الشعب جديرا بعيش وممارسة حياة سياسية وفنية راقية في المستقبل. ❊ ❊ ❊ ولقد تأكد لي ذلك منذ بداية أيام الثورة. فقد أشرت في ثلاث مقالات نشرتها في إحدى المواقع الالكترونية المقموعة بعنوان »سيدي بوزيد: عزلة النصّ وعن قارئه« في ثلاثة أجزاء متتالية، الى ان تلك الثورة كانت متقدمة على النخبة السياسية والثقافية والفنية، فلم يكن من هذه النخب غير الالتحاق بتلك الحركة الجماهيرية الرهيبة. وهذا ما تم أثناء الثورة وبعدها، غير ان الصحف »الصفراء« والوسائل السمعية والبصرية كانت مشلولة وخارج التاريخ بل كانت ضدّ الشعب التونسي وسيفا مسلولا عليه بأيدي المجرمين والمخبرين والمنافقين والدجالين والمخبرين من أشباه رجال الثقافة والاعلام المأجورين. وبعد ان تحققت الثورة حاولت الصحف المتخشبة نفسها والوسائل السمعية والبصرية العميلة للنظام البائد أن تلتحق بالركب،. ركب الأيادي الهادرة، فانقلبت بقدرة قادر في أساليب ركيكة وسمجة الى صحف ثورية أو هي تدّعي الثورة لأنها لم تستطع ببساطة أن تسبح ضدّ التيار. فسبحت مرة أخرى ضدّ نفسها. ولكن لأسباب مختلفة أولها نجاح الثورة داخليا بإسقاط نظام قمعي (وإن كنت أرى أننا أسقطنا عائلة حاكمة فقط ولم نسقط نظاما متغلغلا الى اليوم في الخفايا والزوايا وقنوات التطهير العفنة)، وثانيها ان الثورة التونسية حققت نجاحا كاسحا فاجأ الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية مثل الولاياتالمتحدةالامريكية وفرنسا وغيرهما، أما النجاح الأعمق على المستوى الذهني والنفسي فهو الصدى الجماهيري الكبير لدى الشعوب العربية التي »أرادت الحياة أخيرا، وتحرّكت ضدّ الأنظمة الفاسدة والسارقة والعميلة والناهبة للثروات والقامعة بأساليبها البوليسية المتغطرسة والدليل على ذلك ما يحدث في مصر واليمن والأردن والجزائر في انتظار تحرّك شعوب اخرى لا تؤمن بالموت حياةً دائمةً! إن هذه الثورة الجبّارة وصل صداها الى جميع النخب العربية التي ساندت الشعب التونسي مساندة منقطعة النظير أكثر من النخبة التونسية التي باعت ضمائرها (إلاّ ما ستر ربُك) وذلك الى حدود صباح 14 جانفي 2011. إن النخب العربية قالت كلمتها وساندت إرادة الحياة التونسية ودورها كان طليعيّا في دعوة الشعوب العربية الأخرى الى صحوة مطلوبة أسوة بالصحوة التونسية. ❊ ❊ ❊ يمكن لنا أن نستخلص دروسا كبيرة من هذه الثورة التونسية ومن انتفاضة الشعوب العربية الآن منها أن الأنظمة فاسدة عملت ضد شعوبها فطمست الوعي وشرّدت نخبها شرّ تشريد بأن وضعتهم في سراديب السجون والتعذيب أو أرسلتهم الى المنافي، وهمّشت الناس البسطاء وزرعت فيهم الرّعب ألوانا فتحولوا الى تماثيل حجرية أو خشبية وجعلت هوّة كبيرة بين النخب والجماهير. ومن دروس الثورة التونسية أنها كشفت ان الشعوب العربية محكومة بعصابات مجرمة وعائلات حاكمة بسطت يدها على الجيوب والقلوب، ثم إن هذه الأنظمة صارت أنظمة مورّثة للحكم أو هي بصدد التويث (مصر، اليمن، ليبيا...) ولن نتحدث عن الأنظمة الملكية أو الأميرية أو السلطانية فهي في الوحْل ظِلاَلاً لِلّهِ على الأرض!! ❊ ❊ ❊ إنّ حُدُوسِي لم تفارقني أثناء أيام الثورة لأني كنت متيقنا من أن ثمة ليل سلفّ هذه الثورة وفقهاء ظلام جدد سيظهرون وميليشيات ستبرز ومرتزقة آخرون. كنت متأكدا أن الثورة التونسية ستجد مكبّلات كثيرة داخلية وخارجية. وكنت متأكدا أن الحكومة الأولى المؤقتة كانت التفافًا على الثورة فتمّ إسقاطها والحكومة المؤقتة الثانية غامضة مليئة بالفتن والقلاقل. فالوزراء المؤقتون يقودهم وزير من رموز النظام السابق، وزير أسأله لأول مرة لماذا عملت ثلاثا وعشرين سنة صامتا لا تتكلم في ظل عائلة حاكمة سارقة ناهبة لثروات الشعب؟ لماذا لم تخجل من نفسك ولم تقدم استقالتك منذ أول يوم؟ إني أشفق عليك أيها الوزير لأني لم أرك وزيرا مطلقا سواء عندما كنت مع الدكتاتور أو كنت ملتفّا على إرادة شعب. ولن تبقى في تاريخ هذا الشعب الجبار. وستخرج بعد أشهر قليلة من الباب الصغير وستدرك أنك خذلت هذا الشعب ربع قرن وستذرف الدمع دما ولن يمشي في جنازتك أحد يوم تموت! لم أعد أخشى شيئا هذا اليوم سوى أن لا يبقى من هذه الثورة (أو الانتفاضة الثورية كما قال بعض الأصدقاء) الا »النقص العددي« والمزيد من المعوّقين وفاقدي السند في صفوف هذا الشعب الأعزل! أما على مستوى النخبة السياسية والثقافية فأخشى ان لا يبقى من هذه الثورة سوى إيقاع مستحدث للدّفّ وشكل جديد من ضرب الكفّ بالكفّ وكتابة مختلفة للتقارير المرفوعة الى أعلى الهرم ومزاحمة شديدة لعلامة »قف«! أما من جهتي فأخشى أن لا تبقى لي إلاّ حريّة القول لوزير ما »وجهك وضّاحٌ وثغرك باسم أو وجهك سيّدي لا يعجبني في التلفاز!« أو حريّة القول لوزيرة مّا »أنت لست سوى عجوز شمطاء تنتظر فارسها على صهوة ثعبانٍ أسودَ!«. ❊ ❊ ❊ إن مدار الحديث بالنسبة الى النخبة بكل أطيافها أنّ البناء أصعب من الهدم وأنّ المعركة القادمة شاقّة وقاسية جدا، وأن الثورة لم تبدأ بعد، وأن ألف خيانة لَفّتْ ما أردناه إنجازا فريدا في العالم، وان ثورتنا مترعة بالدم والينابيع!