من المهم، على نحو فائق في استراتيجيا القراءة التقويمية / النقدية لجينيالوجيا الثورات التونسية والمصرية والليبية، بمختلف تداعيتها الجذرية، أن يتمثل المثقف ذو الوعي الثوري حجم التحديات الراهنة والمستجدة التي اشتد اعتراكها في ساحة الواقع السياسي العربي الجديد.. وهي في حقيقتها افرازات قديمة، لكن تتشابكُ عناصرُها في الوضع الراهن بشكل متسارع، وتحضر بمشهديات معقدة وعلائق غير منتظمة ومفارقات فادحة، وهي ايضا عوامل تبدو بمثابة مكونات متآلفة لنشاز حقيقي فيما بينها، بيد أنها من جهة ما في منطق الثورات ليست عوامل سيئة بالنسبة المطلقة، لانها افرازات موضوعية وواقعية لمرحلة مطوّلة من الرداءة والفساد والانحراف تجذّرت داخل أبنية ادارة المجتمع السياسي العربي وفضاءاته السلطوية ومؤسساته الرسمية. ومعلوم أن الإتيقا الثورية أو البراديغم الثوري ذا الوجه العربي لا يحتل منزلة متينة في صرح قيمناالثقافية وبنية وعينا السياسي، وهو على درجة فادحة من الضمور نتيجة الافعولات الجذرية القاهرة لانظمة السطة العربية في طبقات الوعي الجمعي لشعوبها فقد أفلحت سلط هذه الانظمة عبر عشرات السنين في استئصال جلّ بذور هذا الوعي، وحاصرت محاصرة لصيقة قاسية كل مناطق نمائه أو انبعاثه، فالبراديغم الثوري المعاصر في بنية الوعي السياسي العربي الشعبي أو حتى النخبوي لا يرقى إلى كونه »فتات وعي« على حدّ عبارة برهان غليون، غير أن من خصائص هذا الفتات انه لا يفنى تماما وانما يخضع إلى آليات متعددة تحكم شروط انتشاره واعادة انتاجه وتأثيره كما هو حال كل أشكال الوعي. ومعلوم كذلك أن الروح الثوري في أصوله التاريخية شديد الارتباط بالهوية الثقافية العربية وأنماط تشكيلات وعيها وقيمها وليس هذا الوعي بهبوطه الحاد في ضمائر المثقفين العرب وانحساره الفادح في أبنية ذهنياته حالة أبدية كما تروم »السلط الثقافية الرجعية« إلى تجذيره في مشهد الواقع العربي، وهي السلط الثقافية العميلة المرتبطة بهياكل الاستعمار والصهيونية والامبريالية ومؤسساتها السلطوية في الجغرافيا العربية، وهو المشروع الذي ظلّت تهيكله وفق تخطيط منهجي استراتيجي الطغمة الحاكمة في أوطاننا لتنجز استلابا لمساحة واسعة من الوعي الثوري العربي، ولذا ترسّخ الاعتقاد لعقود طويلة في منطقتنا، أن الثورية الراديكالية هي من قبيل الإيدولوجيا الطوبائية، ومفارقة لنواميس الواقعية التاريخية، وحدثا لا إمكانيا، حتى اكتسحت هذه الفكرة أعماق الوعي العربي اكتساحا عقائديا: ليس في الإمكان أبدع مما كان وماهو كائن.. السلطة العربية إمكان واقعي بديع.. الثورة العربية لا إمكان تاريخي.. الجماهير العربية محكومة إلى الأبد، والحكام العرب حكّام إلى الأبد: تلك معادلات جبرية التاريخية السياسية العربية المستلبة والمزوّرة والمكشوفة بعرائها على صحاري الزمن.. أما ا لآن فقد حان للثورية العربية أن تعيد انتاج قواعدها في الذهنية العربية الجديدة، وان تؤسس منظومة فلسفية خاصة بها، مستلهمة من معطيات الواقع الجديد الحامل للآمال الكبرى، والتائق إلى الاهداف الاستراتيجية العظمى.. وحان لها أن توسّع خارطة »الثورة التطبيقية« بالتوازي مع مقدار »الثورة الفكرية النظرية« وأن تجذر »إتيقاها« بمناهج متينة البناء والتخطيط، وعميقة الرؤى، وثاقبة البصر لحماية أركانها وتقوية مناعتها في دورات التاريخ المستقبلية، وهذه أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق المثقف الثوري العربي الجديد. وفي مسار آخر، وبتأسّس الانظمة الوطنية العربية الجديدة ونضج الوعي الثقافي العام، يكفّ النظر إلى المثقف على اعتباره عدوا للنظام أو كلب حراسة لا يديولوجيته الحزبية، بل يكون حينها مثقفا عضويا متفاعلا مع الواقع تفاعلا نقديا بنّاء، ومقتدرا على التأثير وانجاز التغيير التقدمي والتأسيس الحداثي لمبادئ الثورة وقيمها وبرامجها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية الراهنة والاستشرافية.. وبذلك لا تكون الثورة ثقافةً تأسيسيةً / تأصيليةً / ونمطًا من شعور الوعي العربي مقترنة بالفردية أو النخبوية بل تصير حالة جماعيةً / اجتماعيةً / مُحَتَّمةً.. كما أن الحركية الحزبية داخل المجتمع الثوري الجديد بما هي أحد التجليات الراقية للديمقراطية، ستكون وفق وضعها الجديد آلية سياسية فعّالة في انجاز المشاركة المثمرة في صوغ الاختبارات الوطنية الكبرى، وتكريس فاعليتها الواقعية عبر منطق اختلاف تنازعي الأفكار، إلا أنه مدني الأهداف وستكون الأحزاب أركانا متينة في المساهمة في نحت الشأن العام وتصريف شؤونه، وبالتالي تمتين أواصر المجتمع بتمتين أواصر الثورة وجعلها حركية دائبة في شرايين الحياة، وبذلك لا يكون التحزّب آلية لتوهين المشهد الديمقراطي أو الالتفاف على مكاسب الثورة من خلال التعاطي الانتهازي السافر، أو التحالفات المشبوهة والمشينة مع أجهزة السلطة لضرب أحزاب أخرى كما كان معهودا في العهد السابق، كما يكف النظر الى السلوك التحزبي على أنّه مرادف للخيانة الوطنية كما ظلّ دوما يردد الدكتاتور الليبي معمر القذافي »من تحزّب خان«. كما أن تحرير الاعلام الوطني هو من المهام الصميمية لحداثة الثورة، باعتباره الجهاز المؤتمن على اعادة صياغة انشغالات الواقع وأدق قضاياه، بأمانة وشفافية بعيدا عن مختلف أشكال الرقابة والوصاية والتوجيه من الجهات المركزية للسلطة. وجدير بالإشادة أن جهازا إعلاميا عربيا قد أفلح منذ سنين قليلة في إعادة تأسيس وعي اعلامي سياسي جديد للأمة العربية، وساهم مساهمة لافتة غير مسبوقة في مناصرة قضايا التحرير العربية وكشف خبايا كثيرة من الواقع السياسي العربي بمهنية عالية وحرفية عميقة المهارة مما جعله جزءا لا يتجزّأ من أدوات الكفاح السياسي العربي الراهن، هذا فضلا عن دوره في كشف خبايا الواقع الدولي والاوضاع العالمية.. مما رشّح هذا الجهاز الإعلامي ليكون هدفا للاتهام من قبل الأنظمة العربية بالعمالة للصهيونية والجهات الامبريالية، وهذا الجهاز الإعلامي هو قناة الجزيرة.. مفخرة الإعلام العربي على الصعيد العالمي.. كما أن من أبرز رهانات الثورة هو تجذير الوعي التاريخي في ضمير الثقافة العربية، لانه من الشروط الجوهرية للحداثة، فالحداثة الثقافية تستوجب اعادة صياغة كتابة التاريخ السياسي العربي بمنهج علمي متين وبدعم من آليات نقدية دقيقة، إذ الكتابة العلمية للتاريخ بمثابة انجاز علمي ثوري خاصة في خارطة المنطقة العربية حيث الدكتاتورية العربية تستخدم التاريخ أداةً لتزييف الوعي العربي وافراغه من حقائقه الاكثر جوهرية وأصالة، لذا يتوجب انشاء ابستيمولوجيا جديدة في العلوم التاريخية تستلهم أسسها من مكاسب العلوم الحديثة لدحر المتن التاريخي المغشوش الذي ساهم في صياغته »مؤرخو البلاط«، فلقد دأب هؤلاء في تونس على حذف مشاهد كثيرة من النضال التي ارتبطت بأشخاص معينين أو بوقائع مخصوصة فأعادوا هندسة الكتابة التاريخية لترتبط بشكل ممحور بملامح وأمجاد »الزعيم الأوحد« و»المجاهد الاكبر« و»صانع التغيير« و»القائد الفذ«.. وهذا من أسوء وأبشع التوطؤات بين زمر »المؤرخين« والزمر الحاكمة... ومن النماذج الراهنة لإيديولوجيا التلبيس على التاريخ ما حصل في أحداث الرديف سنة 2008 عندما انطلقت شرارة الثورة بهذه المدينة الفتية وكان منطلقها احتجاجات اجتماعية على سوء توزيع مواطن الشغل، والمطالبة العادلة بالتشغيل وهذه مطالب في ظاهرها اجتماعية ولكنها في جوهرها سياسية لانها تستبطن إحساسا بالاستياء العميق والغضب الدفين على الحيف في توزيع الثروات الوطنية وهضم حقوقِ مناطقَ كثيرةٍ في البلاد بما فيها المناطق الجنوبية من التمتع العادل بثمار هذه الثروات، وهو ما أجّج مشاعر جماهير الرديف فتواصلت ثورتها الى حدود نصف سنة، لكن سرعان ما تم قمعها بوحشية ودفع مجموعة من الشهداء الأبرار أرواحهم ضحية هذه الثورة الباسلة، من ذلك: هشام علائمي والحفناوي المغزاوي وعبد الخالق عميدي كما زُجّ بخيرة مناضليها الأحرار في السجون مثل عدنان الحاجي وبشير عميدي والطيب خليفي وعادل جيار وغيرهم... وقد ساهمت القيادات النقابية بالجهة وخارجها في اشعال نضال هذه الثورة وخصوصا القيادي النقابي والمناضل العضوي عدنان الحاجي الذي أعطى لهذه الثورة دفقا استثنائيا فكان قطب مؤسسيها ومركز رموزها، وكان بإمكان هذه الثورة أن تكون منطلقا للإطاحة بالنظام... لكنها سحقت في مهدها لأنها لم تتلقَّى روافد الدعم الكافي من بقية جهات البلاد حيث كان هذا الدعم ضعيفا فالجماهير الاخرى كانت مسحوقة بالخوف والرعب من بطش نظام 7 نوفمبر الغاشم، وقد كان هذا الحدث فرصة سانحة لمن سمّهم »فرانز فانون« »معفّنو الثورات« ليصولوا ويجولوا لاحباطها وقطع أنفاسها ومن هؤلاء خصوصا الوشاة من خونة حزب التجمع وأعوان الجهاز الامني الذين حوّلوا الرديف إلى مستعمرة أمنية، يحسب فيها عدد أنفاس الاهالي حسابا فضلا عن لفيف من المثقفين الانتهازيين الذين كانوا »أسودا زائفة« على الثورة ومنهم على سبيل المثال »برهان بسيّس« الذي أفرد له النظام مختلف المنابر الإعلامية المكتوبة والمرئية والمسموعة للإساءة لهذه الثورة وثلب رموزها... وقد حاول النظام جهده تصوير هذه الثورة المجيدة في صورة عصيان مدني وتحركات ارهابية تغذيها جهات مشبوهة لها ارتباط بأجندات اجنبية بقصد زعزعة الاستقرار والإخلال بالأمن العام... وهو خطاب خشبي دأب النظام على ترديده في وجه المعارضة الثورية ليكون فزّاعة خوف ورعب لها... ودارت الايام دورتها.. وانتفضت الجماهير انتفاضتها بشرارة مباركة أطلقها محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد... فتكسّر حاجز الخوف الاسطوري في قلوب الجماهير فخرجت أهالي هذه المدينة المناضلة إلى الشوارع كالأمواج الهادرة من كل حدب وصوب وانضمّت لها جهات أخرى وقد امتدت رقعة الانتفاضة بشكل ملتهب... وأعلنت الجماهير قرارها الحاسم: إسقاط النظام.. فسقط الصنم الأكبر.. وتهاوت بقية الاصنام المحتمية بقواعده.. وصارت جزءا من مزبلة التاريخ.. غير أن التاريخ لم يثأر بَعْدُ ثأرا كاملا، والاكيد أنّه سيثأر مرة.. أو مرات أخرى... يقول »ريجيس دوبري«: »فالشعوب ليس محكوما عليها بالتكرار العصابي للرضّات أو الصّدمات أو التجارب السائدة لماضيها، ولكنها ليست معفاة أبدا من أن تعالج ماضيها الذي لا يزول من تلقاء نفسه بأن يكف عن أن يكون حاضرا بالفعل«. وتلك هي الرهانات الكبرى للثورات.. وخصوصا ثورتنا التونسية المجيدة.. ثورة 14 جانفي 2011، ألا فلتنهض القوى الثورية لانجاز رهاناتها وانتظاراتها.. إن الوقت سانح والأمل كبير..