تكتسي مسألة تكييف الأحداث التي عاشتها البلاد أهمية بالغة لارتباطها بمسألة مفصلية في سياق هذه الأحداث وهي مسألة المشروعية التي ستتأسس عليها المرحلة الانتقالية التي تمر بها الدولة منذ فرار الرئيس السابق. وهي في نظرنا منذ البداية مشروعية جديدة مستمدة من ثورة الشعب التي تستدعي ضرورة القطع مع الماضي، أي مع الشرعية الدستورية لعدم استيعابها للحالة السياسية الراهنة من خلال عدم انطباق الفصل 57 من الدستور عليها، وكذلك مع المؤسسات الدستورية (مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الدستوري... ) القائمة التي هي في قطيعة واسعة النطاق مع العملية الديمقراطية. ولئن حصل توافق سياسي على اعتبار الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعيشه تونس »ثورة شعبية« فإن تميزها وتفردها أحدث إرباكا لدى النخبة السياسية والفكرية التي لا تجد في موروثها ومرجعياتها الأدوات والمفاهيم التي تسمح بتحليلها واستجلاء تداعياتها بالنسبة للمرحلة. ومهما يكن من أمر هذا الجدل السياسي والنظري الذي سيستوجب مراجعة وتجديد أطر وأدوات التفكير السياسي والعلمي داخل القطر وخارجه، فإننا نعتبر أن احتكام الحدث التاريخي الراهن إلى الإرادة الشعبية أفرز مشروعية جديدة في علاقة مباشرة مع العقد الجمهوري من خلال التركيز على مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية وشفافية وتمثيلية السلطة ومحاربة الفساد، بما يمكن اعتباره »ثورة مواطِنة« (مع كسر الطاد) من أجل المطالبة بالحق في المواطنة في معناها الأصيل المتعلق بحق الفرد المتمسك بهوية الانتظام السياسي والاجتماعي في مجال (المدينة السياسية) الدولة الوطنية في المشاركة في الشأن العام والتمتع باستحقاقاته من منافعه. وقد جسدت الثورة الشعبية من هذا المنطلق مدى ترسخ وتواصل هذه الهوية الحداثية للفرد المواطن في تونس التي قطعت مع هوية الانتظام الملِّي (الديني والجهوي والعشائري) حتى بدت »سيدي بوزيد« و »القصرين« و »الكاف« وغيرها كتقسيمات للمجال الإقليمي للدولة الواحدة الشيء الذي أعطى لاحتجاجات سكانها بعدا سياسيا انخرطت فيه كل الجهات والفصائل الشعبية يهدف الى القطع مع أسلوب للحكم يجعل الدولة غير قادرة على الإيفاء بمتطلبات الرابطة التي تجمعها بمواطنيها في هذه الأقاليم من مشاركة في الشأن العام وتوزيع عادل لثمار التنمية. ولئن كانت هذه الثورة قد أفرزت مطلبا ثوريا للتغيير السياسي والدستوري يدعو إلى القطع مع النظام السابق فإن ترجمته اليوم من طرف اغلب المشاركين في هذه الثورة المتواصلة (الإعتصامات والاحتجاجات المتواصلة في العاصمة وعديد المدن الأخرى) إلى مطلب دقيق ووحيد يتمثل في إحداث »مجلس وطني تأسيسي« فإنه يتنزل في رأينا في إطار رد فعل جماهيري على غياب أفق سياسي واضح لحكومة مؤقتة ظلت تتشبث بشرعية دستورية واهية (الفصل 57 وكل المحاولات والتلفيقات لتجاوز أفقه الضيق بالنسبة للمرحلة) يجعلها تحتكر سلطة القرار في تصريف الأعمال وفي نحت التصورات فيما يتعلق بالآليات القانونية والسياسية للنقلة الديمقراطية المنشودة . وهو ما يبرر في ذات الوقت تردد الحكومة المؤقتة وتخوفها من خلق »الإطار الحواري« المتفق عليه مع بعض الأطراف ليجمع مختلف أطياف ومكونات المجتمعين السياسي والمدني بغية إنشاء توافق سياسي حول جملة من التوجهات العامة التي تترجم مطالب الثورة وسقفها السياسي، في حين أن هذا التوافق يشكل محطة أساسية في مسار الثورة نحو الانتقال الديمقراطي و يرجع ذلك إلى اعتبارات عديدة نخص منها بالتحليل اعتبارين . يرجع الاعتبار الأول إلى منطق الثورات عموما والثورة التونسية على وجه التخصيص، حيث نستشف بالرجوع إلى الشواهد التاريخية من الثورات أنها تنتهي إلى صياغة »بيان« أو »ميثاق للثورة« يحدد المبادئ العامة التي تعكس أهداف القائمين بها ومستويات تداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر وإن كان معهودا ومنطقيا بالنسبة للثورات التي قامت بزعامة قيادة واحدة أو موحّدة فإنه يكتسي خصوصية بالنسبة للثورة التونسية وكذلك الثورات التي تلتها في العالم العربي، ذلك أن طبيعتها الجماهرية والمواطنية والنسق التشاركي والتوافقي الذي انخرطت من خلاله كل الفصائل السياسية والاجتماعية والمدنية المشاركة فيها تجعل المشروعية الثورية المنبثقة عنها في حاجة إلى إطار سياسي (من قبيل مجلس لحماية الثورة أو مؤتمر وطني) كفيل بتفعيل هذا المنهج التشاركي والتوافقي في صياغة مبادئها لانجاز النقلة الديمقراطية المنشودة. أما الاعتبار الثاني فنرجعه إلى متطلبات العمل التأسيسي في سياق القطيعة الثورية ذلك أن التوافق السياسي الذي يحصل بين مختلف المكونات السياسية والمدنية من أحزاب ومنظمات حقوقية أو ممثلة للقوى الحية في المجتمع ليشكل »ميثاقا للثورة« ، من شأنه أن يكون مصدرا مرجعيا للعمل التأسيسي الضروري للانجاز الدستوري للنقلة الديمقراطية بقطع النظر عن آلياته. ولعل حصول توافق حول انتخاب مجلس وطني تأسيسي لوضع دستور جديد لجمهورية ثانية، اختيارا استراتجيا متفقا مع متطلبات الانتقال الديمقراطي كمطلب محوري للثورة. أي محتوى للميثاق؟ يتمثل الدور الأول للميثاق في الإقرار بالمشروعية الثورية كإطار يقطع بشكل نهائي مع شرعية النظام السابق مما يستدعي إيقاف العمل بالدستور الحالي والرجوع إلى مطالب الثورة لصياغتها وترجمتها في مرحلة أولى إلى جملة من الخيارات السياسية والمجتمعية ثم إلى رزنامة عمل يقع تحميل مسؤوليتها للمؤسسات والهياكل التي ستشارك في هذ »العملية التأسيسية« التي تشمل علاوة على الجزء الأهمّ منها المتمثّل في عمليّة »وضع الدّستور« أو وثيقة الدّستور ذاتها كنتاج لهذه العمليّة، الجانب المتعلق بالوجود المادّي للدّولة ككيان تجسّده من ناحية المجموعة الوطنيّة تحدوها الرّغبة في الحفاظ على دولتها الوطنيّة إلى جانب الهياكل الدّستوريّة المؤقّتة (الحكومة المؤقتة والهياكل المحيطة بها) الموكول إليها من قبل المجموعة بشكل مباشر أو غير مباشر تولّي جهاز الدّولة بالحماية والتسيير لضمان استمرارية الدّولة واستقرارها على أساس تنظيم قانوني مؤقت للسلطات. وتتمثل المطالب التي تم التوافق في شأنها ضمن النسق التصاعدي والتشاركي للثورة في: - إسقاط النظام الاستبدادي الفاسد واجتثاث كل رموزه: رئيس الدولة وبقية المؤسسات الدستورية وعائلته الموسعة والحزب الحاكم والآلة الأمنية الفاسدة. - محاسبة مرتكبي الفساد السياسي والمالي والإداري واسترجاع مستحقات الشعب المسلوبة وإعادة توظيفها لصالح الشعب خاصة الفئات والجهات الأكثر تضررا من السياسات التنموية السابقة مع الاتجاه في إصلاح النظام الحالي لإرساء آليات تتيح للشعب مراقبة السلط العمومية ومحاسبتها. - تحقيق الديمقراطية السياسية بإقرار الضمانات للممارسة الفعلية للحريات واسترجاع الشعب لسيادته وتوفير المناخ السياسي والقانوني الملائم لممارستها في إطار تمثيل حر منبثق عن انتخابات حرة وشفافة تشارك فيها كل الأطراف دون إقصاء. - إقامة نظام سياسي متوازن يقطع مع احتكار رئيس الجمهورية لكل السلطات. - تحقيق العدالة الاجتماعية بإرساء المساواة الفعلية بين المواطنين في التمتع بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وعلى رأسها الحق في الشغل من ناحية وبإعادة التوازن بين الجهات باعتماد سياسة تنموية عادلة من ناحية أخرى. والجدير بالذكر أن هذه المطالب تلتقي في أسسها مع مقومات العقد الجمهوري كتوافق سياسي أصلي قامت عليه الدولة الوطنية وضمنه الآباء المؤسسون لها في توطئة دستور 1959 ومبادئه العامة في شكل قواعد مرجعية تهدف إلى »إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السّلط« وتجعل من »النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجع أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة والتعليم« (توطئة دستور غرة جوان1959 ) ولكن رغم التواصل بين »الثورتين« (ثورة الاستقلال والتخلص من الاستبداد وثورة 14 جانفي) من حيث المرجعية فإن الاستحقاقات السياسية والدستورية لثورة 14 جانفي التي تندرج في سياق استخلاص العبر من التجربتين السياسيتين اللتين انحرفتا عن مرجعيتهما لإرساء أنظمة استبدادية استفحل الأمر بالثانية منهما لتنحرف إلى كل أشكال الفساد غير المسبوقة، تستوجب في ذات الوقت فعلا سياسيا وقانونيا آنيا وعاجلا لتنقية جهاز الدولة من كل مظاهر الفساد التي فتكت به والتي تهدد استمراريته حتي يسترجع الشعب ثقته المشروعة في دولته وفي قوانينها، وعملا تأسيسيا يهدف إلى وضع الضمانات والآليات القانونية لنظام سياسي وقانوني يرجع للشعب سيادته. ولئن كان الفعل الأول راجع بالأساس إلى الحكومة المؤقتة، ونرجو أن تكون في تركيبتها الجديدة أكثر قدرة ونجاعة في الاضطلاع به، فإن الفعل التأسيسي هو الأكثر تعقيدا لما يستوجبه من توافق سياسي حول توجهاته وآلياته في علاقة بالمشروعية الجديدة المنبثقة عن الثورة. أما من حيث التوجه العام فإن عملية التأسيس أو بالأحرى إعادة التأسيس فيجب أن تكون شاملة لكل أوجه الدولة كمؤسسة في بعديها السياسي والاجتماعي السياسي من خلال تجسيدها لمبدأين: أولا، ضرورة تفعيل المنطق الديمقراطي للنظام الجمهوري كنظام يقوم على سيادة الشعب بتوفير كل الضمانات التي تكفل مشاركته الفعلية في تسييره بناء على تصور شامل للمواطنة في بعدها السياسي (المشاركة الحرة والشفافة للمواطن في اختيار حكامه والترشح للمسؤوليات العامة والتدخل المباشر في نحت القرارات المصيرية عبر الاستفتاء) وفي بعدها الإداري (إعادة النظر في تصور اللامركزية في اتجاه تكريس فعلي للديمقراطية المحلية وتعميمها على كل إقليم الدولة حتى المكونات الريفية منه) وكذلك في بعدها الاقتصادي والاجتماعي بتوفير الضمانات الضرورية لإرساء ثوابت الجمهورية الاجتماعية من خلال تأصيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالدستور وتركيز مسار تشاركي لوضع السياسات العامة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي يضمن للمواطنين ولمكونات المجتمع المدني والقوى الحية المشاركة في تصورها ومراقبة انجازها. ثانيا، ضرورة أن تكون الضمانات المذكورة متبوعة ومحصنة بآليات رقابية على الأعمال القانونية والسياسية لضمان تطابقها مع هذه الضمانات. وتتفرع هذه الآليات إلى سياسية تهدف إلى تثبيت وتدعيم السلطة الرقابية للشعب صاحب السيادة يمارسها بشكل مباشر أوعن طريق نوابه في البرلمان أو بقية الهياكل التمثيلية الجهوية أو المحلية، وأخرى قضائية تستوجب تكريس مبدأ استقلالية القضاء كسلطة تتفرع إلى أجهزة حكمية مختلفة (دستورية وإدارية ومالية وعدلية) وحفه بالضمانات الضرورية كي يعمل على مراقبة كل الأعمال القانونية الصادرة عن كل الجهاز السياسي والإداري للدولة، وأخيرا الآليات الإدارية التقليدية والمستحدثة في إطار ترشيد التسيير الإداري. ويمكن القول أن هذه التدابير التي تتنزل في إطار تفعيل هذين المبدأين تسوقنا غلى القول بان العقد الجمهوري صار اليوم في حاجة إلى تفعيله وتحصينه بآليات الحكامة الجديدة القائمة على المشاركة والمحاسبة ترتقي في إطارها المعادلة التقليدية بين السلطة والحرية إلى معادلة جديدة بين الحرية والمسؤولية. سعاد موسى السلامي حقوقية باحثة في وحدة البحث في القانون الدستوري والجبائي المغارب بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية