تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجاهد الأكبر الزعيم الحبيب بو رقيبة
❊ بقلم: الطاهر بلخوجة وزير سابق من كتابه الحبيب بورقيبة سيرة زعيم الصادر سنة 1994 عن دار علامات لصاحبها مني
نشر في الشعب يوم 02 - 04 - 2011

شاهدت بورقيبة لأول مرة في شهر أوت 1950 وانا ابن تسع عشرة سنة، حين قام كزعيم للحزب الدستوري الجديد بزيارة لمدينة المهدية، مسقط رأسي [...]
وقبل عودة بورقيبة إلى أرض الوطن ببضعة أشهر، حضرت ربيع سنة1950 زيارة العاهل الامين باي إلى مدينة سوسة حيث استقبل استقبالا شعبيا حافلا وتصاعدت نحوه هتافات تناشده بالاستقلال. فاعتقدنا أن هناك اتفاقا بين الباي وبورقيبة، والواقع ان الحماية الفرنسية وبعض اعداء بورقيبة كانوا ينوون استعمال العائلة المالكة لمكافحة الحزب الدستوري الجديد.
واستبق المجاهد الاكبر الاحداث، ونزل يطوف في معقل الحركة الوطنية، وجاب منطقة الساحل طولا وعرضا زهاء النصف شهر، وزار كل الزوايا والخبايا والمدن والقرى ومن بينها مدينة المهدية حيث وصل يوم 15 أوت 1950.
وهناك تسللت لأخترق حشد الجماهير المتجمعة في جبل بقالطة تحت وهج الشمس لاستقبال بورقيبة وقد أطل الموكب وفي مطلعه دراجات نارية عتيقة وشاحنات مكتظة بالناس من مختلف الأعمار، يتصاعد منها هتاف يصم الاذان معلنا وصول البطل في سيارته القديمة وكان المجاهد الأكبر معتمرا طربوشه القرمزي المشهور فأخذت الجماهير تصفق له وترحب به بحماسة وتندفع باتجاهه. وأخذت أتأمل هذا الزعيم البطل وهو يتمتم مسرّا إلى بعض معارفه ثم تحرّك الموكب باتجاه المهدية. وجعلته الحشود يقضي ساعتين لقطع مسافة عشرة كيلو مترات. وكنت أكاد اختنق في مقدّمة شاحنة ازدحمنا فيها وكنا خمسة أو ستة افراد [...]
وثبتت صورة ثانية لبورقيبة في مخيلتي وهي أشبه بالاسطورة ففي يوم غرة جوان 1955 عاد المجاهد الأكبر مظفرا الى تونس بعد سنوات طويلة قضاها في المعتقل وفي المنفى. وأرست الباخرة مدينة الجزائر القادمة من مرسليا في ميناء حلق الوادي فتقدم بورقيبة الهُويْنى بمفرده نحو جسر النزول رافعا يده وملوّحا بمنديل أبيض تحية لشعبه فاهتزت مشاعر الناس وازداد تأثرها حين أدركت ان المجاهد الاكبر يكفكف دموعه، وكنا مئات الآلاف نهتز في عاصفة من الهتاف وفي نوبة من الفرح ثم ركب بوقريبة جوادا وشق طريقه بين الجماهير، وقد خطط برنامج رجوعه بوحده وبكل دقة، وقد كان نظم له رئيس مجلس الوزراء »إدغار فور« في باريس أثناء المفاوضات دروسا تدرّب فيها على الفروسية.
واعتمد بورقيبة الرجوع عن طريق البحر كما نزل قبله في الثامن من جويلية 1937 الزعيم الوطني الشيخ عبد العزيز الثعالبي أحد مؤسسي حزب الدسترو سنة 1920 من باخرة أرست في ميناء حلق الوادي. وكان الشيخ يلوح بمنديل أزرق سنة 1937، وماثله بورقيبة بمنديل أبيض سنة 1955.
وكان المجاهد الاكبر رحب بضيفه ووصفه بالزعيم الكبير وبأبى النهضة التونسية، واعتقد أنّه سيعترف بواقع الحال وبزعامته وكان الثعالبي جزائري الأصل من أحفاد عبد الرّحمان الثعالبي ولّي الجزائر وكان يجسد في آن واحد صفتين: وطنية الحزب الدستوري التونسي، وايديولوجية القومية العربية. وسرعان ما أثبت شعبيّته اذ تمكن في شهر جويلية 1937 من حشد وتأليب ما يزيد عن عشرة آلاف مستمع في قمبطة بارك (شارع محمد الخامس حاليا)، كما أشرف على اجتماع كبير في قاعة سينما مونديال بحضور الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء الجزائريين.
فانزعج بورقيبة من شعبيّة الشيخ، فأحبط اجتماع الصلح الذي كان مزمعا عقده بين وفد الحزبين القديم والجديد، وعمد إلى تخريب التجمعات الذي كان يعقدها الثعالبي ومؤيدوه، وقد اسفرت عن مجابهات ذهب ضحيتها قتلى وجرحى خاصة في مدينة ماطر ونجح هكذا بورقيبة في تهميش خصمه الذي اضطر إلى اعتزال الحياة السياسية وفرض المجاهد الاكبر نفسه كالزعيم الوحيد.
وفي شهر نوفمبر 1937، عبر بورقيبة وبوضوح عن توجهه واستراتيجيته خلال المؤتمر الثاني للحزب الدستوري وقال: »ان الاستقلال لن يتحقق الا بثلاث طرق وتتمثل الاولى في ثورة شعبية عنيفة عارمة تقضي على الحماية والثانية في هزيمة فرنسا في حربها ضد دولة اخرى اما الثالثة فتنطوي على حل سلمي يتم على مراحل بمساعدة فرسا نفسها يلغي أي حظ في انتصار شعبي، كما ان هزيمة عسكرية فرنسية على يد دولة أخرى لن تساعد عملية الاستقلال بل تسقطنا بين مخالب استعمار جديد فلا مجال اذا للخلاص الا بالطرق السلميّة وتحت رعاية فرنسا« [...]
ثم اعتقل المجاهد الاكبر في 18 جانفي 1952 ، واشتدت المقاومة المسلحة الدموية ضد الاستعمار وفي 31 جويلية 1954، توجه منداس فرانس رئيس الوزراء الفرنسية في موكب فخم الى قرطاج ليعرض على الامين باي نظام حكم ذاتي داخلي يسمح بتشكيل حكومة تونسية.
وقد تم اخطار بورقيبة سرا بالمبادرة الفرنسية وهو في قصر لافرتي الذي يبعد حوالي مائة كيلومتر عن باريس فاجاب ببلاغ ذكر فيه أن »الاستقلال يظل الطموح الاكبر للشعب التونسي وتشكل مقترحات منداس فرانس مرحلة حاسمة« ويدخل هذا الموقف في اطار استراتيجية سياسية متكاملة تكمن في قبول الحلول المرحلية للتوصل للهدف المنشود وكان الملك عبد العزيز ابن سعود قد أوصاه عند اقامته بالمملكة العربية السعودية عام 1948 باعتماد سياسة المراحل وتجنب المواجهة وحماية الطاقات المناضلة [...].
وإلى جانب التنافس الحاد مع صالح بن يوسف، اضطر المجاهد الاكبر خلال نضاله السياسي الى مواجهة معظم رفاقه الاوائل امثال البحري ڤيقة والطاهر صفر وسليمان بن سليمان ومحمود الماطري والشاذلي الخلادي...
وكان بورقيبة طيلة وجوده في الحكم حريصا على الاجماع حول رأيه واتجاهه، وكان التجاوب كاملا مع مؤسسات الدولة والحزب وواجه بعض الصعوبات مع الاتحاد العام لطلبة تونس الذي كان عتيدا ومستقلا، وكانت موارده المالية وعمله يخضعان إلى رقابة دقيقة من لجنة ادارية تتألف في معظمهامن اعضاء تابعين لجامعة باريس وكانت جميع الاتجاهات ممثلة في المنظمة، وكانت اللوائح تقدّمية وتتميز بحريتها تجاه سياسة الحكومة خلافا للمنظمات المهنية والاجتماعية الاخرى وحمل بورقيبة على اتحادنا في ديسمبر 1956 حين قال في خطاب ألقاه بالملاسين احدى الضواحي الشعبية: »يجب تفادي الضغائن وبذور الشقاق تحت ستار مذاهب ومبادئ أجنبية لا يمكننا تطبيقها في بلادنا (...) فقد آخذتم الحكومة على سياستها الليبرالية في الاقتصاد (..) فالمثل »حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت« لا ينطبق علينا في تونس«.
وقد ازداد حنقه حين علم بالزيارات التي كنا نؤديها إلى أحمد بن صالح الامين العام السابق للاتحاد العام للشغل، وكان يعيب بشكل خاص على اللجنة الادارية لمنظمتنا موقفها ضد الانشقاق النقابي واستمرارها في نقد الحكومة.
وفي 8 جويلية 1957 فاجأنا بورقيبة بزيارة لمقر اتحادنا بنهج سان شارل (نهج باش حامبة اليوم)، وكان قد أشعرنا كاتبه الخاص في الصباح بقدوم المجاهد الاكبر بعد الظهر لتدشين مقرنا الجديد بينما كان قد مضى على اقامتنا فيه عدة أشهر ثم أصر على اصطحابنا الى قاعة سينما »البالماريوم« حيث يفتتح اتحادنا اسبوع الطالب وكانت القاعة مكتظة بجماهير طلابية هاجت وماجت بين التحيّة والارتباك لقدوم ذلك الزعيم فجأة، وقد كان وقتئذ يحتل منصب رئيس الحكومة فحسب (قبل اعلان الجمهورية).
وبدا جليا ان بورقيبة كان يسعى الى احتواء منظمتا الطلابية وكسبها و خلافا لتوقع المجتمعين، اعرب في خطاب مطوّل عن ثقته في حركتنا واسترسل في سرد ذكرياته كطالب مناضل في باريس ثم اوصانا بحذف عبارة »صوت الطالب« من شعارنا، وكانت هي المعتمدة منذ توحيدنا مع منظمة طلبة جامع الزيتونة، ثم اخذ يذكرنا بواجبنا القومي قائلا: »ان البعض يرتكب اخطاء تدفع الشعوب ثمنها غاليا (...) ويعتقد البعض اليوم ان روسيا يمكنها ان تقدم الكثير لشباب العالم الثالث لكنني اقول لكم ان هذا المذهب خدّاع ومناهض للقواعد الديمقراطية في العالم الحديث [...]
وكان يقين بورقيبة بدوره المصيري مصدرالهامه في اللحظات العصيبة الحرجة، وكان يحمله ذلك على الانزلاق نحو الحكم المطلق واعتبار الدولة ملكيّته الخاصة فسخر بناها وقيّد المجتمع المدني ليمتثل لمشيئته السياسية، وقد حاول طيلة ممارسته للحكم ان يحمل الجميع على اعتماد أسلوب تفكيره النموذجي وأن يغرس في الاذهان قناعاته وقيمه لتأسيس تونس الحديثة وتدعيم المدرسة البورقيبية.
وكان واثقا من قدرته على اجتذاب جمهوره مبتكرا اسلوبا اشاريا خاصا فكان يعرف متى يرفع ذقنه ومتى يحملق وينتقل من اللهجة المؤثرة الى الاسلوب الهزلي ومن الوعظ والتأنيب الى التواضع ومتى يتعاظم كالاسد او يتمسكن كالسائل الى ربّه، ولم تكن قط كلمات هذا الخطيب الشعبي تدور على و تيرة واحدة اذ كانت محادثاته الخاصة او خطاباته في الناس موشّاة بالصيحات او الضحكات أو الدموع كما كان بامكانه السيطرة على مشاعره او البوح بها وكان يستطيع ان يذرف الدمع لساعته وان ينتقل دون تمهيد من الغضب الى الرأفة والبكاء وقد اعتاد ان يربت على خد محادثيه لملاطفتهم والاعراب عن رضاه وكانت نشرات التلفزة تبرز هذه المشاهد التي تثير تعليقات عديدة وكان يتصرف بهذه الصيغة مع التونسيين وكذلك مع الاجانب ويبدو ان رونالد ريغن رئيس الولايات المتحدة لم يتحرّج من ذلك.
كما كان بورقيبة خطيبا فصيحا بليغا، فنادرا ما يهيئ نصا مكتوبا، وان سجل بعض الملاحظات أو حرر مذكرة فانه يتركها جانبا مفضلا الارتجال. وكان عشية أيّ خطاب يأكل القليل ويظل يتمشّى في الاروقة للتأمل والتفكير في الموضوع الذي شغل باله. وكان يقضي ساعات منغمسا في تأملات عميقة يتخللها غالبا ترنّم بأغان قديمة. ولم تكن خطاباته مفرطة في طولها ولا يستمع ثانية لما ألقاه، وذلك بخلاف غيره ممن يضاهونه نرجسيّته، وكان يفضل المساحات الكبيرة والتجمعات الضخمة وفي الهواء الطلق او داخل قاعات شامخة وكان يلبس الطربوش الاحمر للتعويض عن قامته القصيرة ويحمل لحافا أبيض ليزداد اشراقا على الخلفيّة الداكنة من الجماهير المحتشدة.
وكان هذا الاحتكاك بالجماهير الشعبية يثير بعض المشاكل الامنية وقد أدركت ذلك بحدّة عندما اصبح الامن من مسؤوليتي، فلم يكن بورقيبة يبالي كثيرا بأمنه ولو كان حريصا على تأمين حمايته وكان يكتفي بالتعرف على حراسه القلائل، والواقع انه لم يكن يعرف الخوف خلافا لمعظم رفاقه، وربما يعود ذلك لايمانه بالقضاء والقدر، أو لعله كان بالاحرى واثقا بحسن طالعه وكان يعتبر نفسه بمثابة المنقذ الفريد الدائم لوطنه ولشعبه وكان حكي نوادر كان مولعا بروايتها: ففي عام 1955 وفي أوج نزاعه مع صالح بن يوسف كان يعلم انه مهدد فلم يبال بنصائح وزير الداخلية ورحل الى جنوب البلاد في جولة كان قد اعتزم القيام بها، وامتنع عن ارتداء الصدرية الواقية من الرصاص.
وبالاضافة الى هذه الوقائع الطريفة، فقد تميز بورقيبة في عمله السياسي بموهبته المسرحية واتخاذ القرار الاخير بمفرده ولكن بعد التشاور مع البعض من حاشيته وفي الحكومة وبعد التعمق منفردا في كل أطراف الموضوع وانعكاسات الخيارات المطروحة وكانت اجتماعات الديوان السياسي حوله نادرة وقد جعل منه هيئة تكاد تكون شرفية يعين فيها من يثق به ويطمئن اليه ويقصي منها من يشاء بين عشية وضحاها حسب استراتيجيته السياسية او حسب اختياره للافراد الذين يحتاج اليهم او تحتاج اليهم البلاد فكان الامين العام للحزب يرأس الاجتماعات ولم يكن بورقيبة يطلب اي تقرير عما يجري لانه يعرف ان النقاش يدور حول تسيير الحزب دون اي عواقب سياسية ولهذا نادرا ما كانت المداولات تأتي بحلول عملية وظل هكذا الحزب الاداة المثلى لنقل صوت زعيمه وبث توجيهاته في الجماهير.
واما بالنسبة إلى الدولة فقد كان بورقيبة يهتم اهتماما دؤوبا بسير أمورها وكان يحترم المراتب والتسلسل الاداري بحيث نادرا ما كان يرفض اقتراح وزير رغم التدخلات الخفية لحاشيته أحيانا، وكان يستدعي في اي وقت فضلا عن الوزراء ذوي المناصب العليا كلاّ من مدير الحزب والوكيل العام للجمهورية ومدير الامن وكان يطيل الحديث مع بعض المقربين من مساعديه، وقد حظيت بهذا الامتياز طيلة فترة ممارستي للمسؤوليات.
❊ وسيلة »الماجدة«
وإلى جانب هُيامه بالسلة كان لبورقيبة هُيام آخر هو غرامه بوسيلة زوجته الثانية التي التقت به لأوّل مرة يوم 12 أفريل 1943 حين جاءت لتهنّئه باطلاق سراحه بعد خمس سنوات قضاها في المعتقل.
ومنذ ذلك الحين ظلّ متعلقا بها في مختلف الظروف وتقلبات الحياة وكان منذ ماي 1952 يراسل صديقته من منفاه في جزيرة جالطة الواقعة في عرض سواحل طبرقة.
وفي جانفي 1954 بعثت فرنسا إلى بورقيبة تحت ستار المعالجة طبيبا فرنسيا مرفوقا بمرسول تونسي كان يعمل بباريس بديوان وزير الداخلية الفرنسية وكانت المهمة تؤول إلى اعلام بورقيبة ان فرنسا حريصة على حسن صحته ومزاجه ومستعدة لتمكين وسيلة من زيارته وترجوه فرنسا في المقابل ان يساند باي تونس واصلاحاته. فاغتاظ المجاهد الاكبر ورفض معلنا عن الفرق بين حياته الخاصة والعامة.
وسيختار بورقيبة وقد أصبح رئيس دولة يوم 12 افريل 1962 أي بالضبط بعد 19 عاما من لقائهما الاول ليتزوج وسيلة بن عمار بعد ان طلق زوجته الاولى الفرنسية ماتيلد، رفيقته الباسلة أيام الكفاح، وسرعان ما اخذت هذه الزوجة الجديدة المتحدّرة من برجوازية مدينة تونس تلعب دورا مهمّا في قصر قرطاج لم يلبث أن شكل عامل توازن سياسيا، وان كانت تبدو تساند هذا السياسي او ذاك فإنها في الحقيقة لم تراهن إلا على بورقيبة. وظل كبار المسؤولين يخضعون إلى وطأة القصر الرئاسي بقرطاج حيث كانت وسيلة تجيد اثارة غضب الرئيس طورا وتهدئته طورا آخر وفي الوقت المناسب، وكثيرا ما أنقذت مواقف حرجة وكثيرا ايضا ما عقدّت مسائل هامة، وقد حرص بورقيبة على تحديث تونس ونجح في تحقيق عدة أهداف.
وكان ينبذ التعصب الديني وكان مشرّبا مشبّعا بالثقافة الانسانية العالمية مقتنعا ان مستقبل تونس يقتضي التخلي عن الميثولوجيات والنظرة الاسطورية الى الوحدة العربية الاسلامية وكان يميل الى مواجهة عقليّة الناس واستباق مجرى الاحداث وكان يدرك مع ذلك عظمة الحضارة الاسلامية المجيدة ويؤكد انتماءه اليها وتعلقه بتراثها لكنه يرفض التعلل بحلم العودة الى عهد ذهبي يعتبر انه ولى وانقضى وكان يخشى الاصولية الدينية ويسعى دوما إلى فرض التسامح والتماشي مع العصر. وكنا اعضاء الحكومة وكبار المسؤولين نجتمع حوله سنويا بمناسبة المولد النبوي الشريف في جامع الصحابي ابي زمعة البلوي (سيدي الصّحبي) بالقيروان للاستماع إلى ما كان يقدمه من مواعظ صارمة واجتهادات يشدّد فيها على ضرورة تطوير الممارسات الدينية لتصبح أكثر تسامحا وأقل اكراها، واذا استشهد بالقرآن الكريم فغالبا ما كان يتلو الآية: »لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.