في الغرفة الوحيدة ينام الرضيع فوق السرير الحديدي الكبير بعد أن قضى زمنا في بكاء متواصل يدمي القلب، أجلس على الحشية مقابلة الحوش مسندة ظهري إلى الحائط منتظرة الفرج. على يميني خزانة قديمة وعلى يساري طاولة فوقها تلفاز معطب بجانبه بعض كتب جبران تنعكس الشمس على مرآة الحائط الخارجي فتعطي ألوانا مختلفة . تهلّ روائح شجرة المشمش التي زرعها أبي رحمه الله، حاملة حنينا، وموقظة أوجاعا لتزداد غيمة الحزن اتساعا. تعود الذكريات لتتركّز في داخلي، فأرقص مع عبثية الزمن... ها أنا في السنة الماضية مثقلة البطن بهذا الرضيع النائم الآن... في هذا الزمن الحاضر الماضي أخبر زوجي بدلال أنّي أشتهي توتا، وفي الحال يذهب ويأتيني بأشهى وأطيب توت. ترقص في داخلي الذاكرة فإذا أنا أستعيد نبأ وفاة زوجي، وأعيش الفاجعة من جديد. تدفع أمي الباب متثاقلة حزينة، فأعترضها بكل أمل ونقف تحت الشجرة. تسألني إن كان رائد قد تحسّن، فأخبرها أن حاله على ما هي عليه... التهاب الحنجرة سبّب له حرارة مرتفعة، وأن دواء المستوصف لم يعط أي نتيجة، تضيف بمرارة أنها ترجّت صاحب المزرعة التي تعمل بها أن يقرضها ولكنه لم يرحم دموعها ولا رجاءها.. كيف لمثله أن يرحم أمثالنا وكل وقته مليء بالمشاريع. في قريتنا الكل يتحدث عنه وعن حسناته. فقد ساهم في بناء الجامع واشترى له ثريات فخمة وزرابي باهظة الثمن... يظهر في كل مجمع واجتماع ليستمع إلى إطراء الناس ويستمتع بمدحهم لإيمانه وأخلاقه وكرمه... تقفز قطتنا من فوق شجرة المشمش على كتفي تتمسح عليّ فأبادلها لمسات الحب مبتسمة رغم الألم. ثم ألمس يد أمي بحنان... كل منّا تنظر للأخرى بكل شفقة وبحزن يقارب اليأس لضيق ذات اليد والعجز عن المساعدة... كيف يمكننا الحصول على نقود تمكّننا من حمل الرضيع إلى الطبيب ونحن نكاد لا نملك عشاء ليلتنا. - سأذهب الآن للصلاة وبعد ذلك سنرى ما يمكن فعله. - سأتوضأ وألحق بك لنصلي معا لعل الله يفرج كربنا. إثر الدّعاء تتذكر أمي أن عمي الهادي قريبها في الضّيعة المجاورة يريد شراء حمار فتقرر أن تذهب إليه... بعد ساعات يعودان معا ويتجهان إلى الحمار...إثر حوار قصير يبدأ عمي الهادي بعدّ النقود و يسلّمها إلى أمي، ثم يبدأ بجرّ الحمار الذي يحرن ناظرا إليّ برجاء ألّا أترك الرجل الغريب يأخذه بعيدا عن بيته. نأخذ رائد إلى الطبيب فيحقنه بمضاد للحرارة ثم يكتب وصفة الدواء ويطمئننا على صحته. يسدل الليل جناحه الأسود وتأتي نسائم الصيف محمّلة بالانفراج. أشرع في إرضاع صغيري الذي تحسن وعاد يقبل على مصّ ثديَيَّ بعد أن رفض تناول أي شيء لمدة يوم كامل، أذكر الرزاق وأتفاءل خيرا لعلّه يفرج هذه الضائقة المالية، منذ حين جاءت جاراتنا لزيارة الصغير، كل منهن جاءت بهدية. فاجتمع لدينا البيض والدجاج وبعض الغلال الصحن اللامع في السماء يرمقني بنظرات خلابة لا تقاوم، والحفيف الهامس بالأمل يفتح طاقة للفرح والفرج. مع توحّد الطبيعة المبهج أعود إلى النور الذي بداخلي. يأتي صوت الناي من كيان جارنا القريب تداعب نغماته أعماق روحي وتبعث في كل الوجود ذبذبات كونية ساحرة فيقربني أكثر إلى الكائن الذي بداخلي وبالتالي إلى الوهّاب العليم. تُحكم أمي غلق الباب، ثم نتمدّد على ذلك السرير العتيق يتوسطنا الصغير طامعين في النوم بعد ليلة ويوم من العذاب. تأتيني صورة وجه الحمار وعيناه تتوسلان أن لا أترك الغريب يأخذه فتخنقني العبرة. تقول أمي بصوت واهن لماذا تبكين وقد تحسن ابني كثيرا؟... إنما أبكي الحمار آآآه يا ابنتي ما أشد قسوة الحياة... سأذهب غدا بإذن الله للهادي وأتوسّل إليه أن يعيد لي الحمار على أن أسدّد له الدّين بالقسط، نفيق على صوت ضجيج... نقفز منزعجتين لقد أضاء النهار وها هو الحمار منهك القوى محمّل بالأشواق قد أفلت من رباطه وعاد إلى صاحبتيه.