«بين الشرق والغرب»، «عطر بين الشرق والغرب»، «سيدي منصور»و«ليالي دار الجنّة» وغيرها من الألبومات والمعزوفات والقطع المغناة بصوت خاص وعزف أخص وموسيقى أكثر خصوصيّة تجمع بين النغمات التونسية والشرقية وأخرى عالميّة في بعدها الكوني، وفي تخصّص خاص بمبتكر آلة فريدة اسمها »الراي دجام« (شعاع الارتجال) التي تعود براءة اختراعها إليه وهي عبارة عن آلتين في آلة »عود وغيثارة«، ضيف جريدة »الشعب« لهذا الأسبوع »الجَازْمَانْ« التونسي نبيل خمير الذي حدّثنا بإطناب عن نبيل خمير الفنان والإنسان فكانت هذه الدرسة المطولة معه: ❊ أوّلا، كيف عاش نبيل خمير الإنسان الثورة التونسية؟ (مبتسمًا) مثل كافة التونسيين متسلّحًا بالعصي والحجارة مدافعًا عن أهلي وعائلتي من المليشيات التي روّعت المواطنين بعد هروب الرئيس المخلوع، وهي المرّة الأولى التي نعيش فيها مثل هذا الاستنفار والتكاتف الشعبي الجميل الأمر الذي جعل من كافة المواطنين باختلاف شرائحهم وانتماءاتهم نعيش الخوف وأيضا التضامن الحقيقي بعيدًا عن اللغة الخشبية الكاذبة، بل بتلقائية رائعة. كما شاهدت بأم عيني في صبيحة الثاني عشر من جانفي 2011 ذاك الاعتداء السافر من البوليس على بعض الفنانين الذين قالوا لا. ❊ ومتى شعرت مواطنًا ببداية نهاية الرئيس المخلوع؟ شاهدت ذات مساء قبل بداية الثورة وتأججها بأيّام الرئيس المخلوع في اجتماع طارئ مع سفراء العالم ببلادنا، مرحّبا بهم في تونس على أن لا يتدخّلوا في الشأن التونسي، حينها فقط علمت أنّ بن علي فقد مسانديه ومشروعيته الدوليّة. ❊ أنت كغيرك من فناني تونس الأحرار عشت تهميشا من النظام السابق، لو تحدّثنا عن بعض هذه الممارسات الإقصائية؟ أوّلا أريد أن أقول، بل أجزم أنّ الرئيس المخلوع لم يكن له أي علاقة بالثقافة ولا يفهمها أصلاً، وحتى الوزراء الذين كانوا يسيّرون الشأن الثقافي التونسي كانوا بمثابة الأتباع لسياسته التهميشية الممنهجة لمثقفي تونس ومبدعيها، وأصدقك القول أنّه في العديد من المناسبات تمّ استدعائي بعد نجاح ألبومي »عطر بين الشرق والغرب« لإحياء حفلات لفائدة الحزب الحاكم، وكنت في كلّ مرّة لا أستجيب، ومن حيها بدأ الاقصاء والتّهميش بشكل مباشر، حيث فهموا أنّي لست معهم ولا أنتمي إليهم، فوضعوني في القائمة السوداء، فالثقافة في تونس كانت تسيّر بمنطق »من ليس معنا فهو ضدّنا«. ❊ لو تعطينا مثالاً حيًّا عن هذا الاقصاء؟ كنت ومازلت أنتج في كل سنة ألبومًا جديدًا، وأسعى بجهدي الخاص إلى تقديم ملف عرض موسيقي كامل للمندوبين الجهويين للثقافة الأربع والعشرين، ومن الطبيعي لو كان الانصاف موجودًا في أي بلد يعطي قيمة للثقافة أنّك تبرمج في جلّ المهرجانات حتى لا أقول كلّها، بمشروعك الجديد وبموسيقاك الجادة والباحثة، لا أن يبرمج كلّ من يغنّي التراث، الأمر الذي جعلني ذات مرّة أغيّر من استراتيجيّتي عامدًا متعمّدًا واقترح على المهرجانات ألبومي التراثي »سيدي منصور« لكن كالعادة لا حياة لمن تنادي. ❊ نعلم أنّه تمّ إقصاؤك أيضا من الدورة الأولى لأيّام قرطاج الموسيقية؟ هذه حكاية أخرى، فأنا أقول إنّ هذا المشروع على أهمته بقي هو نفسه على مستوى التنفيذ، هم نفس الوجوه التي كانت في لجنة الانتقاء أو التحكيم لمهرجان الأغنية الذي تحوّل فيما بعد إلى مهرجان الموسيقى ثمّ أيّام قرطاج الموسيقية، فهم أُناس مع احترامي لهم مسنون ومتقاعدون والأدهى والأمر أنّهم غير منفتحين على كلّ الأنماط الموسيقية العالميّة، وهو خطأ تقييمي فهم، فمحمد عبد الوهاب مثلاً كان منفتحًا على كافة النغمات الموسيقيّة العالميّة منذ سنة 1940 ونحن في 2010 و2011 ظللنا منغلقين على مقام »محير سيكا«. ❊ وهل كانت تجربة الولاياتالمتحدةالأمريكية اضطرارية أم اختياريّة، نتيجة هذه الظروف؟ لا، وحتى أكون صادقًا معك كانت عن قناعة منّي بضرورة تغيير الأجواء والبحث عن آفاق جديدة، حيث شاركت في اختبار عالمي، وتمّ قبول مشروعي، بل وحصَلت أيضا على مساعدات مالية لإنجازه ثمّ تعاقدت إثر ذلك مع شركة انتاج عالميّة. كلّ هذا دون أن أعرفهم ويعرفوني ودون واسطة ولا »أكتاف«، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم، في حين أنّ ذات الملف قدّمته لوزارة الثقافة التونسية ورفض، والكلّ يعلم أيضا أنّ ألبومي المتحدّث عنه »عطر بين الشرق والغرب« حاصل على جائزة شرفية من الولاياتالمتحدةالأمريكية وظلّ يُبث على أثير الاذاعات الأمريكية والأوروبية لمدّة شهرين دون انقطاع، كما احتلّ المرتبة الأولى على مستوى المبيعات بالولاياتالمتحدةالأمريكية لمدّة شهر كامل، أمّا في تونس فقد رفضت وزارتنا دعمه من الأول لضيق في التصورات لدى بعض المسؤولين المحالين على التقاعد الابداعي. ❊ وأنت أيضا مبتكر آلة »الراي دجام« التي تعود براءة اختراعها إليك، لو تحدّثنا عنها أكثر؟ هي آلة مسجّلة باسمي منذ سنة 2005، أنجزتها بمعيّة كلّ من التونسي عبد الحميد الحداد والهولندي لوني جانزر بين تونسوهولندا، وتتألّف من ست أوتار مضاعفة أي اثني عشر وترا، وكلّفتها حوالي 15 ألف دينار تونسي... أردت من خلالها مزج آلتين طالما أحببتهما وأعني هنا العود والغيثارة، فكانت فكرة مزجهما في آلة واحدة هي »الراي دجام« أو (شعاع الارتجال) لإيماني بالارتجال الممنهج في الموسيقى العربية والعالميّة. ❊ وماذا عن اختيارك للجاز كموسيقى؟ (يضحك) قد أفاجئك إن قلت لك أنّه اضطرار وليس اختيار، حيث كنت مولعًا بالغناء منذ صغري وكم من مرّة مررت بالتلفزة التونسية، حينها كنت أدرس عند أحد المسؤولين الكبار عن الموسيقى التونسية وأذكر أنّه قال لي بالحرف الواحد: التفت إلى دراستك وكفاك عبثًا، و»انسَ التلفزة«، فكرهت الغناء والموسيقى واتجهت إلى قسرا الجاز، وهذا المسؤول »كرّهني« أنا وغيري في الغناء والبروز أيّامها خوفا على مركزه ومصالحه الضيقة. ❊ أنت وقلّة من الفنانين التونسيين تؤسسون للموسيقى العالمة والموسيقى التي فيها بحث، صراحة هل لنا في تونس تقاليد في هذا المجال؟ طبعا، فأحمد القلعي هو أحد هؤلاء وهو الحاصل على الاسطوانة الذهبية من مصر، أنور براهم نفس الشيء، لكن المشكل في العقلية وأنا أؤكد لك انّ ابراهم مثلا لو ظلّ في تونس وفي تلك الظروف البائدة لما وصل إلى شيء، فالمشكل ليس مشكلة جمهور بل مشكلة الهياكل أو لنقل بعبارة أخرى بعض المسؤولين عن تلك الهياكل الذين يفرضون نوعية معيّنة من الموسيقى بعيدا عن البحث وروح المبادرة والتجديد.. وهذا الأمر يشمل التوزيع أيضا في المهرجانات فحالة الإحباط التي يعيشها الفنان التونسي على مستوى التوزيع ومناقشة السعر وال 15 في المائة الشهيرة، لو تحصل في أمريكا لانهار الفن بها.. كما أنّ الفنان التونسي وللأسف الشديد في ظلّ النظام السابق ليس له »قدر« ولا قيمة. ❊ وهل يستمع الشباب التونسي اليوم إلى الموسيقى العالمة والأغنية التي فيها بحث موسيقيّ؟ أكيد، فالشباب التونسي وللأسف تمّت هرسلته تراثيا في العصر البائد، الأمر الذي جعله يهرب إلى موسيقى »الميتال« و»الروك«.. وهذه النزعة التراثية رسّختها أكثر وسائل إعلامنا المرئية والبصريّة، فمثلا أنا أرى أنّه من واجب التلفزة الوطنيّة أن تشجّع على البحث الموسيقي وأن تساعد المبدع على إنتاج الكليب وأن تمرّر هذا الكليب العديد من المرّات وفي أوقات ذروة المشاهدة التلفزيونيّة لا على الهامش، فالمواطن يدفع من ماله الخاص فاتورة استهلاك للصورة التلفزيونية والفنان هو في النهاية مواطن ينطلق منه وينتهي إليه. ❊ لنكن عمليين ماذا تنتظر من سلطة الإشراف اليوم؟ على وزير الثقافة إعطاء العروض للمبدعين لا للفنانين والأسماء، أنا مع التخصّص لو أنّ كلّ مهني يبدع في مجاله لأصبحت تونس بلد الإبداع والإمتاع في كل المجالات. ❊ صراحة، على امتداد 23 سنة لم تكوّن علاقات في المجال؟ أنا لا أؤمن بالعلاقات، أؤمن بالعمل الفني وقيمته، ولك مثال تجربتي بأمريكا فقد أرسلت عملا كأي مبدع فلاقى القبول والاستحسان والتّنويه دون علاقات ولا مزايدات ولا ضرب تحت الحزام، ثم وهذا لك ولقرّاء »الشعب« أقول إنّني مررت ذات محنة صحيّة بظروف استثنائية ومريرة، وقد قبلت الموت أصلاً، فهل أفكّر بعد هذا بالعلاقات؟ ❊ ماذا تنتظر من الثورة فنّانًا؟ أنتظر تأهيل القطاع من خلال تفعيل حقوق التأليف، وتوفّر شركات انتاج وتوزيع حقيقيّة، وأن تمرّر الاذاعات التونسية 70 في المائة من الانتاج التونسي وتخصّص الباقي للموسيقات الأخرى، وليس عكس ماهو حاصل الآن، مع مراعاة جماليّة البث الذي ظلّ وللأسف بدائيا إلى حدّ الآن، أنتظر إنصافًا أكثر من المهرجانات في تعاملها مع الفنان من خلال ملفه لا اسمه، أنتظر راجيا إبعاد المتطفلين عن أي مجال. كم أحلم وليس الحلم بعزيز على تونس وعلى فنّانيها بجولة فنية بكامل التراب التونسي، كما هو الحال بكل بلدان العالم، فعلى المبدع أن يُشاهد بكامل تراب بلده، أنا مع التكريم وأنا حي، وامنحني مكانتي و»قدري«.. فكما يقال: الغذاء الروحي للفنان هو التصفيق. ❊ وفي الختام ماذا عن جديدك؟ أصدرت مؤخرا عملين غنائيين عن الثّورة التونسيّة الأول بعنوان »عُبّاد المال« والذي يقول مطلعه عُبّاد المال / مادام الحال / ربّي موجود / هو المعبود / عُبّاد قسيتوا / ضحكتوا ونسيتوا / واللّه لا ينسى / نهبتوا وفكّيتوا / كْنزْتوا وخبّيتوا / واللّه ما يبقى.. والعمل الثاني بعنوان »نحبّك يا بلادي« ويقول مطلعه: »نحبّك يا بلادي / وعليك انّادِي / ديمقراطية وعدالة / للشباب التونسي... كما أستعدّ للإقامة عرضين في هولندا في أواسط شهر جوان القادم مع مجموعة من العازفين من عدّة بلدان عالميّة وهو عمل طريف بعنوان »ستة معالق في المطبخ« أي ستة آلات مختلفة من عدّة بلدان لمطبخ واحد وهو الموسيقى.