لقد تغيّر كلّ شيء! هكذا كنت أرقصُ بعد أن أخذتني هذه الأحاسيس إلى أماكنَ أبعدَ من هذه الأرض. ذلك هو إحساسي يوم 14 جانفي وأنا أجيب عن سؤال أحد الصّحافيين عن أحلامي. أجبته متعجّلا حينها لأشاهد الشمس التي أطلّت من وراء القرون أمام مبنى الدّاخلية: حرّية الإعلام، قضاء مستقلّ، عفو تشريعي عامّ، مجلس تأسيسي... إلخ. ثمّ سبحتُ مجدّدًا في مياهٍ بشريّة جارفة كانت تغطّي الشوارعَ والأزقةَ والقلوبَ وحتى أنفاسَ الاشجار والعصافير. نعم، أتذكركل شيء. لم يقفز في داخلي سوى »الكلمة« التي تلعلعُ مثل الرّصاصة لأنّها أخطرُ شيء على الإطلاق. وهي نعْمةُ النِّعَمِ. لقد تغيّر كل شيء! كنتُ أحلمُ بصحف تمنح الناس الضّوء، وتقتل الخوفَ الذي جثم في عقول وفوق صدور الناس أكثر من نصف قرن. كنتُ أحلمُ حتّى صار الحلم سمكةً بل كلمةً. ❊ 2 ❊ اليوم، وقد تحوّل الحلمُ إلى حقيقة حيث صرنا نرى صحفًا وأحزابًا وإذاعاتٍ وقنواتٍ ومواقعَ الكترونيّةً بعدد شعر رأس بني آدم. صرنَا نبحثُ عن التميّز وسط هذا الكمّ الهائل من أجهزة التواصل. والسؤال المطروح اليوم هو كيف نؤسّس بلدًا جديدًا قائمًا على حريّة الفكر والتعبير والاختلاف والتعدّد؟ كيف نجعل الصّحافة أو السلطة الرّابعة أفضل مهنة في العالم؟ »فأفضل خبر ليس ما يُكتبُ أوّلاً بل في كثير من الأحيان هو ما يُكتبُ بشكل أفضل (❊)« كما يقول الرّوائي غابرييل غارسيا ماركيز في حديثه عن الصّحافة التي مارسها بشغفٍ طيلةَ أعوامٍ. »وفي الحالة الخاصّة للصّحافة يبدو أنّ المهنة، لم تتطوّر بنفس سرعة أدواتها، والصّحافيون تاهوا في متاهة التكنولوجيا المنطلقة بلا سيطرة نحو المستقبل، حيث يبدو التعامل مع الظواهر الفلكيّة أسهل من التعامل مع قلوب القرّاء«(❊). ويبدو لي هذا اليوم بكثير من التفاؤل أنّ الصحافيين التونسيين بدؤوا يتحسّسون طريقهم للمرّة الأولى ليس لتصويتهم في مؤتمرهم الاخير لقائمة السلطة الرابعة بل لتصويتهم لأنفسهم أوّلاً وأخيرًا ولشمس الحقيقة التي لن تَغْرُبَ أبدًا ولرفاقهم الذين ناضلوا في سنوات الجمر وبيع الذّمم. لقد صوّت الصحافيون الأحرار لصاحبة الجلالة التي انتظروها أكثر من نصف قرن. لذلك ينتظرهم عمل شاقّ ولذيذٌ في آنٍ واحدٍ ليمنحوا هذا البلد معنى جديدًا إثر ميلاد سلطة خامسة مدجّجة بأعتى أنواع الأسلحة في ظلّ انفجار الكتروني رهيب قائم على السرعة المذهلة وتحسّن مستوى الصّورة. إنّها الصحافة الالكترونيّة التي أصبحت سلطةً شرعيّة خامسة، لأنّ للعالم أكثر من جهة... ❊ 3 ❊ خرج المصفّقون والمناشدون والمنافقون من أصغر بابٍ وانتصرت الطيور التي كانت تغرّد داخل أقفاصها تحت الشمس. لقد طارت العصافير أخيرًا، لكن حَذْوَ الشمس هذه المرّة! وهنيئا لنجوم السلطة الرابعة. (❊) من كلمة ألقاها غابرييل غارسيا ماركيز في مقرّ الجمعية الامريكية للصحافة أكتوبر 1996.