أفرزت الثورة في حراكها السياسي علاقة فصام بالنّص الدّستوري السابق واصبح الوضع يتسم بعدم الاستقرار المؤسساتي مما خلق حالة قطيعة بين موجبات الواقع السياسي بحركيّته المتسارعة وبين موجبات الدستور والنصوص القانونية المنظّمة للحريات والتي بدا انه تجاوزها الحدث. في ظلّ هذا الاطار الحرج خرج راكبو الثورة وفقاعات المجتمع يطالبون بحقوقهم في تكوين نقابات وفي الزيادة في الاجور وصدحت أصواتهم بالصيّاح بعدما كانت معطّلة تماما وعلت اياديهم تلوّح بكل انواع الشعارات بعدما كانت منكّسة في ظلّ هذا الوضع الخطير كان الاطار التربوي في تونس مثالا للوطنيّة وتوانى عن القيام باي اضراب يطالب فيه بالزيادة في الاجور رغم الحاجة إلى ذلك وقدّم مجهودات جبّارة من أجل انجاح السنة الدراسية وقدم الكثير من الزّملاء الساعات المجانية للتلاميذ وتنازلوا حتى عن عطلتهم مع ان الجميع يدرك تمام الادراك ان فئة المعلمين اكثر فئة قادرة على تنظيم الاضرابات وانجاحها واقتلاع حقوقهم اقتلاعا.. لقد تجنّدت النقابة العامة طوال هذه السنوات للدّفاع عن مدرسة عمومية يكون التعليم فيها اجباريا ومجانيا ذي محتوى ديمقراطي وشعبي وتقدّمي وعن حق المعلمين في وضع تصوّرات بديلة عبر تشريكهم من خلال هياكلهم النقابية وكانت وسيلة الضغط القوية التي مورست على السلطة لاطلاق سراح مساجين الحوض المنجمي الذين طالبوا بالتشغيل وضحّوا بحريّتهم ومواطن عملهم دفاعا عن كرامة المواطن فسجّل اضراب 5 أكتوبر 2009 وقفة صمودية شامخة وشجاعة في تاريخ هذا القطاع الحافل بالنّضالات كما مثّل القطاع بنقابته في كلّ مراحل الهجوم الصارخ والحصار التجويعي الذي ضربته الصهيونية على غزّة مثالا يحتذى به في الحملات التطوعية لجمع التبرّعات والادوية وخروج القوافل وتوعية التلاميذ بقضية الشعب الفلسطيني وضرورة دعم المقاومة دعما شعبيّا مطلقا ورفض كل اشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني. وجاءت ثورة 14 جانفي 2011 تدعو للقطع النهائي مع الاستبداد فنادى المعلّمون ونقابتهم باسقاط الحكومة السابقة دعوا إلى انتخاب مجلس تأسيسي وتجنّدوا لشنّ اضراب يومي 24 و25 جانفي شمل كل المؤسسات التربوية وكان اضرابا ناجحا تراوحت فيه نسبة المشاركة بين 90٪ و100٪ وكان لهذا الاضراب هدف أساسيّ هو الدفاع عن مصلحة الشعب والاستجابة لمطالبه في اتجاه القطع النهائي والتام مع تاريخ طويل من الاستبداد والانفراد بالسلطة ويبدو ان نقابتنا ابدعت في كل وسائل وأشكال النّضال وبرهنت من جديد انّ المرحلة تستوجب مراجعة وتجديد اطر وادوات التفكير السياسي داخل القطر وخارجه فارتأت ان تكون سبّاقة إلى تقديم برنامج متكامل لتوضيح معالم المرحلة الساسية القادمة فنظّمت ندوات قطاعية التزمت بمضامين المرحلة وكيفية تحضير وتهيئة المعلمين ليكونوا وكما كانوا دوما في مستوى المسؤولية والمهام المنوطة بعهدتهم لتأطير زملائهم وتحسيسهم باهمية المرحلة القادمة فكانت الندوات متزامنة تباعا وعلى حسب الجهات على النسق التالي ندوة وطنية ايام 16 و 17 أفريل في سوسة ندوات على مستوى ولايات الجنوب والوسط والشمال على امتداد شهر ماي في قابسسوسة وبنزرت وأخيرا ندوة قطاعية وطنية أيّام 20 و21 جوان في سوسة خاصة بالمرأة العاملة وتناولت هذه الندوات بالشرح والتوضيح اهم المفاهيم المطروحة على السّاحة اليوم كالمجلس التأسيسي والانتقال الديمقراطي والقانون الانتخابي والمسألة التربوية والثقافية والانظمة السيّاسيّة القائمة على الفصل بين السلط. كنت من الحاضرات في النّدوة الاخيرة 20 و21 جوان في سوسة والتي نظّمها قسم الشباب والمرأة العاملة باشراف السيد المستوري الڤمودي وتحت عنوان »الاصلاحات السياسية: الواقع والافاق وكانت بحق ندوة متميّزة على مستوى التنظيم الجديّة الافادة والاستفادة وبرهنت فيها النقابيات على جدّيتهن في العمل واستعدادهن اللاّمشروط للنّضال جنبا إلى جنب مع الرجل في معركة التغيير والحداثة من أجل دولة ديمقراطية مدنيّة تضمن تكريسا فعليّا للحقوق والحريات. تفاعلت كل المحاضرات مع المحاضرة الاولى التي ألقاها الاستاذ »محمد القاسمي« وكانت النّقاشات دسمة وثرية خاصة ان المحاضر ألمّ بكل جوانب الموضوع بكلّ وضوح باسلوب سلس ومرن شرح فيه للحاضرات اهمية المجلس التأسيسي باعتبار الدّور الاساسي الذي سيلعبه في تأمين المرحلة الانتقالية فهو الذي سيقوم بتشكيل الحكومة المؤقتة وانتخاب رئيس الدولة المؤقت ووضع تنظيم وقتي للسلطات وهو الى جانب ذلك سيتعهّد بمهمّته الرئيسية المتمثلة في صياغة الدّستور واصداره ودار نقاش ثريّ حول اهميّة هذه العملية التي يجب ان تكون عقلانية باعتبار ان الدستور يتضمن اهم المبادئ الكبرى للدولة السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية ثمّ تطرّق إلى العملية الانتخابية وتناولها بالايضاح حسب جداول ونسب تشرح عملية التمثيل النسبي واكبر البقايا مما قرّب وبسّط كل العملية الى أذهان الحاضرات ومع حدود الساعة الرابعة استمتعت جميع الحاضرات بمداخلة شيّقة للاستاذ نبيل الهوّاشي حول »الأنظمة السياسية القائمة على الفصل بين السلط« فتطرّق إلى المرجعيّة التاريخية والفكرية لمبدأ الفصل بين السلط مرورا ب »John look« إلى مونتسكيو واختار النظام البرلماني نموذجًا ناجحًا وتركز النقاش اساسا حول ما توفرّّه الانظمة البرلمانية من علاقة تفاعل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وما يخلق بينهما من علاقة تأثير وما يحدثه من رقابة في الاتجاهين فتمّ التطرق إلى وسائل رقابة البرلمان على الحكومة ومدى تأثير الحكومة على البرلمان مما اثار جدلا حول ايجابيات وسلبيات هذا النظام خاصة في مجتمع سياسي في تونس يفوق فيه عدد الاحزاب التسعين وخلق جوّا كبيرا من التفاعل بين المحاضر والحاضرات. مثل اليوم الثاني يوم الحسم باعتباره شكّل موضوعا هاجسا لكلّ المحاضرات وهو مدى المشاركة الفعلية والحقيقيّة للمرأة في العمل النقابي واتفقت اغلبية الحاضرات على ان غياب المرأة عن العمل النقابي هو بالضرورة غياب عن العمل الوطني والاجتماعي مما يفقد الحركة الوطنية والسياسية الزخم الجماهيري فوقع التطرق الى اهمّ المعوّقات التي تواجهها المرأة في هذا المجال سواء كانت ذاتية أو سوسيو ثقافية وحاول الجميع التطرّق والوصول في النهاية إلى حلول عملية وقع الاتفاق عليها بالاجماع لعلّ اهمّها اقتراح مبدأ التناصف مع بداية المؤتمر القادم اعتماد برامج تكوينية وتثقيفية واحداث هيئات جديدة للتكوين والاستقطاب وابداع أدوات حديثة تتلاءم مع خصوصيّة المرحلة القادمة مع تعزيز ودعم قدرات المرأة في تحمّل المسؤولية النقابية الشيء الذي أدخل حماسا كبيرا في صفوف كلّ الحاضرات. لم يقف نشاط النقابة العامة في حدود تنظيم هذه الندوات والمساهمة في انجاحها بل تجاوزه إلى اصدار نشريات ملخّصة لمجمل هذه المواضيع وضعت على ذمّة النقابات الاساسية التي عملت بدورها على تمريرها إلى كافة المعلمين للاستفادة منها لذلك يحقّ لنا القول فعلا بأنّ الاسرة التربوية في تونس ممثلة خصوصا في التعليم الاساسي قاعدةً ونقابةً كانت وستكون دوما مثالا للوطنية الصادقة والنّضال المتواصل. سعاد نصر معلّمة نقابية من دائرة باب بحر