في كلّ مرّة يطلع علينا وزير الثقافة المؤقّت إلاّ ويذكّرنا برأيه حول بناية المركز الثقافي لمدينة تونس الجديد وغير المكتمل بَعْدُ على أنّه ينطلق في أساس فكرته على رؤية ستالينيّة »مع العلم أنّي لا أنا بالستاليني ولا أنصّب نفسي مدافعا عنها« ولكن أسأل ما الضير في ذلك وأزيد ، هل ستعدم بقيّة الدور الثقافية عند افتتاح هذا الفضاء »الستاليني« بصومعة المراقبة المستمرّة التي تزينه على حدّ قول الوزير المؤقّت . والجميع يعرف جيّدا ما أحوج البلاد وشبابها المبدع إلى الفضاء »ستاليني ، ماوي ، مخابراتي«... أيّ كان تصنيفه والى آخر السطر من التوصيفات والمراجع النظريّة التي لا تضيف للمبدع الحقّ والمثقف الوطني سوى إصرارٍ على خرق فكرته وتطويع قيمته المعنويّة إلى معنى مادي فاعل . إنّ شكليّة الفضاء لا تضيف إلى معناه سوى وجود مكان للفكر الحرّ المسؤول وكلّنا تقريبا من الكهول يعلم كيف كنّا نتداول أشرطة الشيخ إمام التي كانت آنذاك ممنوعة في دكّه في بيت الراحة بدهليز دار الثقافة »ابن رشيق« ففكرة التعاطي مع الفضاء ليست جديدة طالما هناك إبداع حتى على مستوى التعاطي مع المكان وطبيعة بنيته هذا إذا فرض علينا بعد الثورة التي أنجز الجزء الأهمّ منها »لكن حذار بقي المهم لم يكتمل بعد«. لذلك نقول للسيد الوزير المؤقّت هاتها على علتها ونحن نتكفّل بفرض شروط اللعبة فيها بما يرغبه الوطن من خلال مثقفيه ومبدعيه جمعا وليس بالتمييز والمحسوبيّة والولاءات كما كان الحال في الزمن البائد . ولنسارع الآن ببناء حرّيتنا الذاتيّة أولا في ذات كلّ مثقّفينا . واكتساب الثقة التي زعزعتها سنين الظلام حتى استقال من استقال وهرب من شرد أو نفى ذاته في ظلمة السكر البطيء بعد أن هدّد حتى بات في وحدته سلعة سهلة لحصار أشباه المستكتبين »والثقفوت« وغيرهم من الوُشَاةِ والسَّدَنَة . وها هم الآن يعيدون تشكيل صفّ راكبي الثورة الثقافية والإبداعية ويحاورون باسم الذين مازالوا في أماكنهم رابضين ومرابطين ويصنعون من دمارهم وفقرهم ومآسيهم إبداعا واعيا وملتزمًا رغم قلّة ذي اليد والحيلة. وتشرّد من تشرّد واستعمل من استعمل بمعوّقاته وعلّته الثقافية وغيرها كأبواق صوريّة للسلطة . ومات بغصّته من يجب ان نحيي عظامه من رميم التاريخ ونعيد إليهم الاعتبار على غرار شاعر أقسم على انتصار الشمس »المختار اللغماني« و»الطاهر الهمامي« وغيرهم كثر خصوصا من شباب كان. هو الآن مازال في نشوة الخروج من إحباط قاتل وينتظر بصيص رؤيا لمستقبل الممكن وما يكون وسيكون من حياة أخرى وهبتها الثورة لهم ، بادر بفكرة »الطليعة الأدبيّة« التي على نقائصها هي واجهة ومدخل للثروة الفكريّة الثقافية وكنز البلاد الذي مازلنا نحمل في الداخل بعض إرهاصاته . وأهمها عضويّة المثقّف . وما أحوج البلاد الآن قبل غد لثقافة تبني الوعي الجمعي الشعبيّ بمختلف مكونات المجتمع وشرائحه وطبقاته. ثقافة تغرس المواطن شابا كان، أو كهلا ناقص تكوين ووعي كاف ليبني مستقبل الوطن بكرامة مكتسبة. بحكم التراكم »التبليدي والتهميشيّ و التغييبي« والإقصائي . أريد له منذ آخر زمن بورقيبة خصوصا منذ مؤتمر قربة إن لم أقل منذ محاكمات 1975 الشهيرة . حتى نكفيهم شرّ القتل والقتال. ثقافة تتفاعل بصدقيتها ومصداقيتها وكلّ التفاصيل التي تغذّيها لتبني المواطن بفكرته وحقيقته وذاكرته ومذكّراته. انطلاقا من تكوينه الذاتي المبني على أسس الواقع السحريّ لحياته . والتي تنطلق من خاصّيتها وخصوصيتها ، إلى العام الذي ينشأ من محيطها الصغير إلى إنسانيتها في بعد المساحة الإنسانيّة وفي تلاحم بين معطيات التشابه وحدود التماس مع الأبعاد الإنسانيّة. ولحماية ثورتنا من أي إنزياح أو انعطاف أو ركوب أو تفرّد وانفراد . وجب أن نحرّر الحراك الثقافي والمثقّف من جملة من المعوقات أوّلها العائق الإداري وفصل المبدع والمثقّف عن المهام الإداريّة والسعي الذي يجرّه إلى سعاية . وتوفير الفضاء التي تعوّض آنيا ومرحليّا فقرنا وافتقارنا لمسألة الفضاء والحفاظ على ما تبقّى من فضاء ثقافي. مع توزيع متكافئ ومتنوّع للإبداعات على عموم الجمهوريّة من ناحية .مع توزيع أيضا متكافئ للأعمال والإبداعات بتلوينها ومرجعياتها الفكريّة الثقافية وحتى السياسية إسهاما في تطوير الوعي الجمعي للشعب . وفكّ الارتباط مع الوضع المزري للكتاب وأطوار إنتاجه منذ الكتابة وحتى الطبع والترويج فكلّ هذه المراحل أثبتت التجارب الكثيرة والتي اضطر إلى اتباعها بعض المبدعين لتوخّيها لكنّهم خسروا أكثر مما جنوا. »وهنا أتحدّث عن الجني المعنوي وليس فقط المادي« فأي من الكتب التي نشرت »أتحدّث عن الإبداع خصوصا« بلغ وتناهى إلى أسماع القرّاء حتى أنّ المبدعين أصبحوا هم الذين يتكفّلون ببيع كتبهم في المقاهي والحانات وفي بعض الأحيان فرضا على المشتري الذي يرميه في أول انعطافه شارع خلفيّ . ليس لمعرفة مسبقة بضحالة ما فيه لكن لموت القناعة بضرورة أن نقرأ . أو لشبهة في ولاء الكاتب المجبر في بعض الأحيان على ذلك حتى يجد له مكان »في فضاء آخرة بديلة«. وما زاد على هذا وذاك ليس غياب المروّج والموزّع، وإنما الشراهة الانتهازية لغالبيّة من يدعون جزافا بناشرين. فهم يأخذون من الكاتب تكلفة الإنجاز وبهامش ربح ولا يكتفون بل يزيدون توريط الكاتب على إمضاء عقد يبيح لهم البيع لوزارة الثقافة هذا مع ما وفّرته القوانين من دعم للورق وغيره. وبذلك أصبح الكاتب سلعة لعبة يستشير من خلالها بعض من نجازف بتسميتهم وتوصيفهم وتبويبهم على أنهم ناشرون. وبذلك نشأت شريحة ممن لا شأن لهم بالإبداع والإبداع براء منهم بينما يعيش ويموت شاعر مثل »رضا الجلالي« دون أن يرى مجموعة يتيمة حتى تذكّرنا باسمه وهو الذي قال عنه درويش »من هنا تبدأ القصيد التونسيّة..« وغيره كثر ممن أحرقهم الفقر وقتلتهم قلّة الحيلة وكفّرهم الوعي حتى كفروا بهذا البلد آنذاك »أي في الزمن البائد« ولم يريدوا لقلمهم أن يدنّس وصوتهم أيضا بالولاء لغير الشعب وقد آن أوان خروجهم للعلن وأن يبرزوا تحت شمس إمّا أن تحرقهم لقلّة نبوغهم أو أن تغرقهم بعرق الكدح الإبداعيّ . وتهبهم الحبّ الكافي ليكونوا ثمرة الشعب الكادح. وبوّابة ولوج سحر البلاد بنهارها وليلها. وهنا وجب أن نعود إلى ثقافة شعبيّة محرّكة لوعي الشارع بمهام المرحلة. لا ثقافة نخبويّة تجنح بنا إلى تكريس وغرس فضاء خاص وآخر عام. الأول جميل واستيتيقيّ أنيق فخم . والثاني على شاكلة المراحيض العموميّة مكلّف بتنظيفها في أفضل الحالات وَاشٍ أو منخرط بليد . فبناء وعي جماهيريّ هو حاجة وضرورة للحفاظ على مكسب الثورة الأهم والمهم »الكرامة الوطنيّة« وهي تبنى عبر تفاعلات المثقّف الذي إن وجد الأرضيّة الصحيحة والصلبة حتما سيخرج من سجنه الذاتي ويلتحم والواقع بحرارة روحه ويضيف إضافته التي من خلالها يرى الشعب نفسه فيها ويستقرئ مهامه وواجباته قبل حتى مستحقّاته وحقوقه . وما عضويّة الثقافة إلاّ الأرض البركانيّة التي تحمي بنار القلوب ثورة الشعوب وتحمي عزّتهم وكرامتهم من التلاعب والبيع جملة وتفصيلا. لذلك وجب على المثقّف والمبدع الاتجاه نحو الشعب ينهل منه ومن حياته التي هي حياته . ومن واقعه الذي هو ذات واقعه . وكفانا مهاتراتٍ وجدالاً لا طائل من ورائه وأعني بأكذوبة الحداثة والعولمة وغيره مما أنتجته الإمبرياليّة لتلهينا عن واقع هو الآن ملك لنا ولا يجب أبدا أن نسهو أو نغفل عنه ليُسْلََبَ منّا لأيّ سبب . وما الحداثة سوى الثورة في حداثتها . والعولمة سوى الثورة في بعدها الإنسانيّ العالميّ . لذلك فأنا أدعو المثقّف إلى الابتعاد عن شبهة الأحزاب. ولا أقصد بكلامي هذا عدم الانتماء الفكري إلى نهج معيّن ومحدّد . لأن ذلك من الحريات الشخصيّة . لكن ما أقصده هو ترك السياسة لأهلها وقد سفينتك إلى حيث مراسيها البعيدة في أفق الإنسان وقلبه وروحه وحيث يكون الإبداع سبيلا إلى خدمة الفكرة في بعدها العام البريء براءة الطفل الذي فينا يحلم بالبلاد نموذجا ودرسا للإنسانيّة تستلهم منه صحوتها ونشوتها ونخوتها. وكن كأعظم كتّاب الثورة الروسيّة حين قال في أوج الاحتفال بانتصار الثورة »أنا الآن أقف على نقطة الصفر كنت أنقد القيصر ولم أتوانَ رغم كلّ ما حلّ بي أمّا الآن فأنا من سينقد الثورة حتى لا تضيع منّي ما دمت حيّا وأنا مرآتها لترى عوراتها وتصلح ما يمكن ويمكن إصلاحه« (بتصرّف كاتب المقال). لذا وجب التركيز على معطى الحرّية الكاملة والغير مشروطة للمثقّف حتى وإن عبّر عن فكرة هي في وجهتها وبعدها ذات بعد سياسيّ أو اجتماعي أو فلسفيّ وغيره »فللحريّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقّ«. ومن هنا نبدأ قيادة مركب الثقافة الوطنيّة الشعبيّة وليكون المثقف إحدى ركائز البناء الصلب لمجتمع حرّ كريم ومسؤول . فاسترجع وجهك من المسافات البعيدة... وكن سعيدا يا ابن قلبي بما وهبتك ثورتي كن البلاد في روعة البلاد فينا وكن الحبّ كاملا ... يا ابن الحبّ في وطن القلب...