كنت أدرك منذ أعوام طفولتي أن الموت لا يقيم الا في الميتافيزيقيا. حاول أبي أن يخيفني بالموت حيث لا سلطان الا سلطانه. وعندما اكتشفت القصيدة الاولى في المدرسة الابتدائية صرت أضحك، لأن الموت لم يكن سوى ذلك الثعلب الذي خرج على الناس في هيئة واعظ. ولتتذكروا معي قصيدة »خرج الثعلب يوما في ثياب الناسكين«. واثناء مجابهتي للموت لم أكن أحمل سوى القصيدة لأنها المشعل الوحيد الذي يستحق الحمل اثناء الصعود الى الجبل. كنت أدرك ان الموت يقيم في أوراحنا وعقولنا لذلك حاربته بالنور والضوء. لكني حزين هذا اليوم لأني شعرت بشيء ما يخذلني لكنه لم يزرع في قلبي اليأس، فاليأس للموتى. إن تلك الجموع التي خذلتني يوم 23 اكتوبر 2011 هي تلك التي تربّت في الظلام تحت سياط الدكتاتورية، هي تلك الجموع التي تربّت على الاستكانة والخضوع. ففي كل يوم »سيّد« بالنسبة اليهم، سيّدهم من يعدهم بالحلوى والتفّاح، بينما هم في حاجة الى شيء ما يخرجهم من درب اللعنات والابتلاء المليء بالعجز وخفوت الارادة وضعف الهمّة. أنا سعيد هذه الايام ليس بإقبال المقترعين على الصناديق، بل بمظاهرات الشعب الامريكي العظيم وهو يردد بكلمات عربية حقيقية في قلب نيويورك »الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب يريد اسقاط »وول ستريت«. إن العالم كله يردّد الآن الجملة العربية الشهيرة »الشعب يريد«. لقد عمّت المظاهرات المدن الغربية ضد العالم الرأسمالي المتوحش القائم على البنوك والبورصات. العالم يختنق وعلى شعوب العالم الغربي ان تنتفض وإسقاط جميع الانظمة الغربية المتوحشة. إن شعوب أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا هي شعوب عظيمة وطيبة في الاصل تحبّ الحياة والأمن والسلام والعيش بكرامة. انها تريد عدالة اجتماعية لا وجود فيها لغني أو فقير. والمظاهرات ستعم ايطاليا وغيرها في الايام القريبة، فلا سبيل لخلاص الشعوب الا بإسقاط أنظمتها الرأسمالية المتوحشة. إن جموعا بأكملها هنا كانت تسبّح باسم بورقيبة وبن علي صارت تخرج بسياراتها مساء حاملة أعلامًا بيضاءَ وزرقاءَ ومشعِلةً أضواءً وزاعِقَةً بمنبّهاتها الكريهة. حتّى الصّحف (صحف ابراهيم وموسى) صارت تصدرأغلب عناوينها باللّون الأزرقِ. وهي نفسها تلك الجموع التي هتفت لبن علي اثر كل خطاب من خطاباته. فحاذروا من ظلام قادم أيها الخلاّن والرفاق الذين لا يملكون الا أقلامهم وحروفهم. إنكم تحملون الضوء. خذوا أسلحتكم مرّةً أخرى فثمّة ضيف جديد. أشرعوا السّيوف فثمّة زائر جديد. ❊ ❊ ❊ أشفق هذا اليوم على زعماء الاحزاب القديمة والجديدة فأمامهم جهنم: سبع مائة ألف عاطل عن العمل ثلثهم من حاملي الشهادات. آلاف الضحايا والشهداء والمعذّبين الذين ينتظرون تعويضات معنوية ومادية. مديونية خانقة. بنية أساسية مهترئة. (المزيد من الضّحايا وسقوط المباني تحت أمطارهذا الشتاء الأزرقِ). قضاء سيّء. إعلام ينوء تحت ثقل السنوات الستين. آلاف المليارات المهرّبة. جلب الذين هرّبوا ثروات البلد ومحاكمتهم. ... إن المسكين اليوم هو الذي يبلعٌ طٌعْما ويشارك في حكومة انتقالية جديدة نصفها من رموز النظام القديم. الذين يلهثون خلف الكراسي يثيرون الشفقة. وسوف يخرج الشعب لإسقاطهم من جديد، بزعامة فرحات حشاد جديد لأنه الزعيم الوحيد الذي كان يتكلم بلغتهم ويأكل معهم خبزا وزيتا وزيتونا وبيضا مسلوقًا. إنهم يعيدون نفس اسطوانة الكذب على شعب بسيط وأعزل. شعب لا يزال يبحث عن قرار، شعب أشبه بالريشة في مهبّ الرياح، سيكذبون ألف مرة. ثم سيخرج عليهم مرة أخرى لكن بعد يخسر مائة عام تحت سياط التخلف والجهل والموت والعناء. تعسا لهذه الحياة القذرة. والموت للجبناء والانتهازيين. إنها الحرب مع الظلام والدكتاتورية المضاعَفة مثل عدد طبقات الأرض. فاستعدّوا مرة أخرى ايها المناشدون الجدد، يا كتبةَ التّقارير وحرّاسَ النوايا.