لن يتغيّر موقفي قيد أنملة حيال الحزب الديني في المجتمع المسلم: إنّه ظاهرة لا غير. من هذا المنطلق سأحاول تقييم فوز حزب النهضة الديني بغالبية الأصوات في انتخابات 23 أكتوبر. وأعلن منذ البدء عن حرصي على تفادي الإقصاء وعن تشديدي على ضرورة الانكباب على حلّ هذه المشكلة الظواهراتيّة. لقد نبّهنَا منذ شهور وإبّان ثورة 14 جانفي من أنّ حلّ المشكلة الدينية في تونس (وفي كامل الوطن العربي الاسلامي) ليس في الاعتراف بتيّار أو بحركة دينية، مثل حركة النهضة التونسية، كحزب سياسي وبالتالي منحه تأشيرة العمل السياسي وما يترتّب عن ذلك من مشاركة في الانتخابات ومن تنافس على السلطة. إنّ الداء يعالج بالدواء لا بالجزاء. وتسليم التأشيرة لحزب حركة النهضة بُعَيْدَ سقوط النظام السابق يُعدّ من باب الجزاء لا الدواء. لكأنّ تونس الثورة، حكومة (مؤقتة) وشعبا، أرادت بذلك مكافأة حركة النهضة. وهاته الحركة تستحق فعلا كلّ التكريم والمكافأة والجزاء لِما قدمته من تضحيات وما أظهرته من معارضة للنظام السابق وما عانته من ويلات تباعا لذلك. لكن الخطأ يكمن في كون المكافأة شيء والاعتراف بالنهضة حزبًا دينيًّا شيء ثانٍ. كان على تونس تكريم حركة النهضة بأساليب عدّة عدا أسلوب منح التأشيرة لها. إنّ منح حزب النهضة التأشيرة للعمل السياسي العلني زاد في تعقيد المشكلة الدينية ولم يحلّها. وما تصاعدُ الصّراع بين اسلاميين وعلمانيين من حين إلى آخر إلاّ دليل على ذلك. ولا أصدق من يقول إنّ مثل هذا الصّراع مفتعل. إنّه مرضي، أجل لكنّه غير مفتعل. والمرضي قد يُستغلّ من بعض الأطراف (اليسارية والعلمانية) لخدمة غايات معيّنة، وهنا فقط يكمن الافتعال. لكن لا ينبغي أن يغطّي الاستغلالُ الجانب المرضي. لماذا يختار شعبٌ مثل تونس ظاهرة مرضيّة لتحُكمه؟ وماذا يحصل لما يتمّ الاختيار؟ إنّ اختيار غالبيّة الناخبين لحزب النهضة ليحكم البلاد دليل على خلط بين الداء والدواء. وليس حزب النهضة الدّاء ولا الدّواء. إنّما الدّاء، وهو ما لايعي به غالبية شعب تونس، هو عدم معرفته بحاجياته الأصلية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فكانت النتيجة أنْ لاذوا بالتصويت ل »دواء« النهضة. وهذا جهل بالعلّة نلوم النخب المثقفة على تغلغه في النسيج الثقافي وفي العقل المجتمعي الى حدّ تفاقم الأزمة الوجودية بالشكل الذي نعيشه الآن. فانتخابات 23 أكتوبر تقنين لهاته الأزمة. لكن الآن وقد مضى نصف عام على تسليم التأشيرة لحزب النهضة، والآن وقد تمّ الاختيار، لا أحد بقادر على أن يتنبأ بحقيقة ما سيحدث من تغيّرات ومن إرهاصات ومن تجاذبات ومن صراعات، في المستقبل، نتيجة لهذا الإثبات الشرعي لمشكلة وجودية، لكن الأكيد أنّ الأمر عموما، على عكس ما يمكن أن يُتوقع من كل انتقال ديمقراطي، لا تكتسيه لا الصحة ولا العافية. لذا يتوجّب على النخب التونسية ركوب القاطرة وهي تمشي، كما يقال، مع التعهد بالقيام بمبادرات أذكر أهمّها: 1 الاسراع بتفكيك المشكلة الدينية ضمن المحافل العلمية المختصة أولا. 2 توسيع رقعة الحراك الفكري بخصوص هذه المسألة الحيوية وذلك تحت رقابة فكرية دراية ومطلعة. 3 استعانة تكتلات وأعضاء المجلس التأسيسي المنتخب بخبراء تونسيين في المسألة الدينية الهوياتية وذلك بواسطة آليات جديدة يتمّ إنشاؤها للغرض. 4 التنسيق الموصول بين العمل الذي تنجزه هيئات المجتمع المدني في إطار الحوار حول المسألة الدينية وبين العمل داخل المجلس التأسيسي كي يقع من جهة الارتقاء بالمستوى الفكري لدى الشعب، ومن جهة أخرى التوسيع في مساحة الوفاق في داخل المجلس. 5 الحرص على تأسيس دستور يقترب أكثر فأكثر من المستوى الرفيع للتطلعات التي أبداها الشعب بثورته في 14 جانفي، وبالتالي يضمن أكثر فأكثر مساحة الانسجام، داخل المجلس وخارجه، ممّا يؤمّن للأغلبية وللأقليات حدّا مقبولا من الرضاء عن الدولة التونسيةالجديدة بكل مكوّناتها.