في إطار الحراك الذي تشهده مهنة الخدمة الاجتماعية ومنذ الأيام الأولى لما بعد الثورة ، اتجه اهتمام الأخصائيين الاجتماعيين إلى مسألة استقلالية المهنة وهو مطلب قديم وأساسي باعتبار أهميته في القطع مع عقود من الاحتواء والتهميش للأخصائيين الاجتماعيين ولمختلف البرامج الاجتماعية الموجهة إلى الفئات الاجتماعية الواسعة التي دفعت غاليا ضريبة الإقصاء ووهم التنمية العادلة وتلازم البعدين الاقتصادي والاجتماعي. فقد عمل النظام المخلوع على امتداد عقود على تجريد مهنة الخدمة الاجتماعية من كل مقوماتها الفنية وتدجين العاملين فيها ومنعهم من إشاعة القيم والمبادئ التي تستند إليها الممارسة المهنية . وإذا علمنا أن مجموع القيم والمبادئ والأخلاقيات والمرجعيات التي تؤطّر مهنة الخدمة الاجتماعية تجعل منها مجالا لتكريس الحقوق الأساسية للمواطن في الصحة والعلاج والسكن والرعاية الاجتماعية والتنمية فهي في جوهرها تشكل خطرا حقيقيا على كل الأنظمة المستبدة وسياساتها الفاشلة لأنها توقظ الوعي لدى الفئات المحرومة وتعمل على تغيير معنوياتهم وتصوراتهم للحياة. ولم يتوقف التهميش عند حرمان الفئات الاجتماعية الواسعة من أبسط حقوقها في العيش الكريم بل اقترن ذلك باعتماد أرقام ومؤشرات واهية حول نسب النمو والتنمية ونسبة الفقر والبطالة والأمية والجريمة والتغطية الاجتماعية والسكن استندت إلى برامج ثبت عدم جدواها، لم يقدر الفنيون على اختلاف مواقعهم ورغم عديد المحاولات الجادّة على تطويرها بما يتماشى مع الحاجيات الحقيقية للفئات المعنية بها مما عمّق الشعور بالإحباط واليأس للممارسين لمهنة الخدمة الاجتماعية والمنتفعين بخدماتها على حدّ السواء. 1) استقلالية مهنة الخدمة الاجتماعية بين المرحلة الانتقالية وزمن الشرعية الجديدة؟ لقد أطاحت ثورة شعبنا بهرم الاستبداد لكنها لم تستكمل أهدافها في غياب برامج اقتصادية واجتماعية استثنائية ومنظومة قانونية صارمة تؤسس للخطوات الأولى في إرساء عدالة اجتماعية حقيقية، وكردّ فعل اوّلي أجمعت مكونات مهنة الخدمة الاجتماعية الجمعياتية والنقابية والإدارية النزيهة على ضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لحماية المهنة من التهميش ولحماية حرفاء المهنة من التوظيف مجددا تحت عناوين مختلفة . وقد تمثلت الخطوة الأولى في إصدار المنشور عدد 3 المؤرخ في 27 ماي 2011 الخاص بالبرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة وهو منشور مشترك بين وزيري الداخلية والشؤون الاجتماعية، كما تمّ إدراج مهنة الخدمة الاجتماعية خلال نهاية شهر سبتمبر ضمن الفصل الثاني من النظام الأساسي العام لأعوان الوظيفة العمومية وهذا الإجراء سيفتح الباب أمام وضع نظام أساسي جديد للأخصائيين الاجتماعيين من المفروض أن يفتح آفاقا مهنية ويؤسس فعليا لممارسة مهنية أصيلة في كل مجالات التدخل مع الأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات المحلية والادارة الاجتماعية والبحوث والدراسات وهي مجالات ستتطلب مهارات فنية ووسائل عمل مادية وبشرية هامة. وقد تزامن صدور هذا المنشور باتخاذ قرارات تضمنت الترفيع في عدد المنتفعين بالمنح القارة ليصل إلى 185 ألف منتفع والترفيع في قيمة المنحة القارة إلى 70 د في الشهر واحتساب مساعدة إضافية ب 10 د لكل طفل في سن التمدرس على أن لا يتجاوز عدد الأطفال المعنيين بالترفيع ثلاثة أطفال بكل أسرة ، كما شهدت الساحة الاجتماعية قرارات جديرة بالاهتمام تتمثل في صرف مساعدات مالية للأسر المعوزة وعدد هام من الأسر محدودة الدخل لمواجهة ارتفاق النفقات المعيشية وتأمين الحد الأدنى من الموارد المادية بمناسبة العودة المدرسية. وإن تسببت هذه الاجراءات في إثقال كاهل الأخصائيين الاجتماعيين الذين تحمّلوا ضغط الشارع وتعرّضوا للعنف المادي والمعنوي عند تكوين الملفات نتيجة الإقبال المكثف للمواطنين للبحث عن مساعدة سواء بصفة تلقائية نتيجة الفقر المدقع أو نتيجة التحريض المتعمد من السلط المحلية الذين فقدوا مشروعية التدخل وهامش المناورة في التلاعب بمختلف البرامج الاجتماعية، فقد مكنت هذه الإجراءات من ترسيخ موقع المهنة في ذهنية شرائح واسعة من المجتمع حيث تم ببساطة ضمان كرامة هؤلاء عند تلقي حوالات الكترونية بمختلف مكاتب البريد وهي خطوة هامة لحماية كل هؤلاء المنتفعين من كل عمليات التوظيف والابتزاز التي كانت سائدة . ولم يقتصر الضغط على هذه البرامج بل شمل مجالات أخرى ساهمت في إغراق الأخصائيين الاجتماعيين بآلاف البحوث الاجتماعية الموجهة من السلط الجهوية والتي تتصل ببرامج لا صلة لها بخصوصية المهنة واستحقاقاتها مثل إنجاز بحوث اجتماعية حول المنتفعين بالامتياز الجبائي للحصول على رخص مختلفة وبحوث تحسين مسكن وقد تسببت هذه الظروف في هدر عديد الطاقات وتوظيف المهنة ولو بدرجات أقل في خدمة توجهات السلطة الانتقالية التي اتسمت بالسطحية والارتجالية لكونها لم تساهم في تحقيق نتائج ملموسة على الميدان والدليل أن حجم الطلبات لم ينقطع بل تضاعف وفي المقابل يتم تمييع دور الأخصائيين في التنمية المحلية ومقاومة الفقر وكل مظاهر سوء التكيف الاجتماعي وفق مقاربات جديدة. وفي انتظار ارتسام معالم السياسة الاجتماعية للحكومة القادمة وإن كانت بعض المؤشرات تبعث على الحيرة في غياب مواقف حاسمة تشير إلى تبني اختيارات اجتماعية واقتصادية تتعارض مع جوهر سياسات الحكومات الانتقالية السابقة وترسم مشروعا مجتمعيا يضع أسس نظام سياسي جديد قائم على القيم التي أتت بها الثورة وهي الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية فقد اتجه الأخصائيون الاجتماعيون إلى تعزيز مناعة المهنة حيث ركّزت مختلف النقابات الأساسية للشؤون الاجتماعية بتأطير من نقابتهم العامة على صياغة نظام أساسي جديد يستجيب لمتطلبات المهنة في المرحلة المستقبلية ويساهم في تحسين نظام التأجير للأخصائيين الاجتماعيين وللعاملين معهم في بعض الجوانب من الامتيازات المالية المتصلة ببعض المنح المحدثة على غرار منحة الخطر والعدوى. 2) النظام الأساسي الجديد للأخصائيين الاجتماعيين بين تثمين الخصائص الفنية للمهنة وتحسين نظام التأجير. يندرج مشروع النظام الأساسي الجديد الخاص بالأخصائيين الاجتماعيين لوزارة الشؤون الاجتماعية، في إطار استكمال مقومات خصوصية سلك الأخصائيين الاجتماعيين تماشيا مع الاستحقاقات المستقبلية للمهنة وروح المرسوم عدد 89 لسنة 2011 المؤرخ في 23 سبتمبر 2011 الذي تم بموجبه تنقيح الفصل الثاني من النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الادارية وبالتالي إدراج سلك الخدمة الاجتماعية ضمن الأسلاك الخصوصية . وقد تضمنت الفصول 2 و 3و 4من مشروع هذا الأمر: تحديد طرق الخدمة الاجتماعية المتمثلة أساسا في: (التدخل الاجتماعي مع الأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات المحلية) والإدارة الاجتماعية والبحث والدراسات. تعريف التدخل الاجتماعي والتأسيس لضبط مرجعيات مهنة الخدمة الاجتماعية صلب قرار صادر عن الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية. التأكيد على فنية البحوث والتقارير الاجتماعية باعتبارها تقارير اختبار فني يختص بإنجازها الأخصائيون الاجتماعيون وفق معايير ومنهجية عمل . وتبعا لذلك تم صلب الفصل 11 إقرار مبدأ حصر الانتدابات في خريجي المعهد الوطني للشغل والدراسات الاجتماعية الحاصلين على الشهائد العلمية في الخدمة الاجتماعية باعتبار أنّ هذه المؤسسة هي الوحيدة المؤهلة قانونا حاليا لتقديم تكوين أكاديمي أساسي وتكوين مستمرّ لاحق يأخذ بعين الإعتبار المعايير والمهارات الفنية (تقنيات التدخل والمقاربات) وأخلاقيات ومرجعيات مهنة الخدمة الاجتماعية باعتبارها مهنةً خصوصيةً. وحرصا على أن تعكس تسمية هذا السلك حقيقة وحدة المرجعيات والمقاربات والمهارات والفنيات وتقنيات التدخّل الخصوصية تم صلب الفصول 6 و 22و 24و 26و 28و 32و 36إقرار صفة أخصائي إجتماعي كصفة مشتركة للأخصائيين الإجتماعيين مهما كانت رتبتهم عوضا عن تعدد الرتب الإدارية المعتمدة سابقا وضبط مهام كل رتبة بما يتماشى مع خصوصية المؤهلات العلمية والفنية لكلّ منها. ونظرا إلى خصوصية خطة ملحق اجتماعي وما تستوجبه من إلمام بالخدمات الاجتماعية الخصوصية لفائدة الجالية التونسية بالخارج وتوفر حدّ أدنى من الحرفية والمهنية تأسّيا بغيرها من خطط الملحقين (على غرار الملحق الثقافي والملحق العسكري والملحق الأمني الذي يقتصر على فنّيين مختصّين) تم صلب الفصل 21 إقرار مبدأ أن يقتصر التعيين في خطة ملحق إجتماعي على الأخصائيين الاجتماعيين العاملين بالهياكل والمؤسسات التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، مع التأسيس لضبط مهام هذه الخطة وشروط ومقاييس التعيين فيها بمقتضى أمر بإقتراح من الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية. ولفتح الآفاق المهنية أمام الأخصائيين الاجتماعيين تم إقرار 4 صيغ للارتقاء في الرتبة وهي الترقية بالمناظرة الداخلية بالملفات والترقية إثر اجتياز مرحلة تكوين مستمر بنجاح والإرتقاء الآلي وفق آجال معيّنة (صلب الفصول13 و23 و25 و27 و31 و35)، والإرتقاء الإستثنائي قبل 3 سنوات من إحالة الأخصائي الإجتماعي على التقاعد (صلب الفصل 19) كما تم إقرار استثناء لاسناد الخطة الوظيفية (صلب الفصل 20) لتجاوز ما قد يتسبب فيه عدم توفر شغورات صلب التنظيم الهيكلي للإدارة من تعطيل للمسار المهني، ولكن مع اشتراط أن يقتصر الانتفاع بهذا الاستثناء مرة واحدة طيلة الحياة المهنية. واعتبارا لكون مستوى تأجير سلك الأخصائيين الاجتماعيين دون المأمول مقارنة مع خصوصية وحجم العمل الذي يقوم به تم صلب الفصول 15 و16 و 17و 18اقرار امتيازات مالية لهذا السلك من خلال إدماج ثلثي منحة الإنتاج بالأجر الأساسي الشهري وإقرار 3 منح (منحة العمل الشبكي ومنحة الخطر والعدوى ومنحة الهندام)، حيث أثبتت الاحصائيات الرسمية، على سبيل الذكر لا الحصر، أنّ نسبة الفقر تعادل 25 ٪ من مجموع السكان، علما وأنّ مجال مقاومة الفقر ما هو إلاّ أحد مجالات تدخّل سلك الاخصائيين الاجتماعيين. كما يبلغ عدد الملفات المتعهّد بها من قبل الأخصائيين الاجتماعيين سنويا حوالي 1 مليون و400 ألف ملف (منهم 1 مليون و 200ألف ملف موزعين على 4 مجالات كبرى 185 ألف في مجال المنح القارة / 753 ألف في مجال العلاج المجاني وبالتعريفة المنخفضة / 200 ألف في مجال رعاية الأشخاص المعوقين/ 70 ألف في مجال رعاية الفئات المهددة بالإقصاء وسوء التكيف الاجتماعي)، أي بمعدل حوالي 900 ملف لكلّ أخصائي اجتماعي إضافة إلى ما يستوجبه انخراط الأخصائي الاجتماعي في منظومة العمل الشبكي من مهام جسيمة نوعيا وكميا. ونظرا إلى ما يتعرّض له الأخصائيون الاجتماعيون العاملون بهذا السلك من hعتداءات نتيجة لحجم العمل وخصوصية الفئات المتعهد بها، تم صلب الفصل 7 إعادة التأكيد على الحق في الحماية الذي يكفله الفصل 9 من القانون عدد 112 لسنة 1983 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية لكل موظف. تلك هي أهم مضامين النظام الأساسي الجديد وهو مشروع يحظى بدعم الأخصائيين الاجتماعيين بمختلف مناطق البلاد وتعتبره النقابات مكسبا للمهنة خضع للتفاوض بين الطرف النقابي ووزارة الشؤون الاجتماعية وسيبقى مجالا للتعبئة الواسعة إلى حين إقراره نهائيا من قبل مصالح الوزارة الأولى. ❊ شاكر السالمي أخصائي اجتماعي وكاتب عام النقابة الأساسية