أثناء مخاض تخلّص الانسان الاول من الحيوان الابكم وخلال الولادة الانفصال عنه يحلو للبعض ان يؤكّد فظيع الوجع الذي عاناه الدماغ ثم كان صراعه المرير مع الطبيعة لفرض الذات يطوّع عناصرها بمايعمل لصالحه فكانت خطوات عملاقة علي هذه الطريق تتبعها استرسالا اخرى اوسع منها ومازالت تتواصل فالرحلة مستمرّة غير أن هذا المسار لابدّ ان يولد اخر يتبعه فيكون علامة وضّاءة تنير للكشف عن الانفصال التامّ بين الحيوانين الناطق والابكم رغم الرابط المشترك بينهما. انّه التعبير عن الاحساس المرتبط بالدماع الخارج من الثبوت والمنغرز في التحوّل المستمرّ ذلك هو الذي نطلق عليه فنّ العيش الذي سيخلق تدريجيا وتصاعديا فنّ الحياة وهذا التصاعد الذي يعرف في كل مرحلة تراكمات تنتهي بتحوّل نوعيّ يخلق السلسلة المسترسلة والمترابطة حلقاتها التي ترتقي تدريجيا بالحيوان الناطق الى مرتبة الأنْسنة هو ما نطلق عليه مفهوم الثقافة، ثقافة الانسان، الانسان الموجوع في رحلته. لماذا نؤكد صفة الوجع. منذ مليونين ونصف من السنين حسب ما كشفته الحفريات وما يرتبط بها كانت انطلاقة وجود هذا الكائن الحيّ المطرّز بالعجائب فالتساؤلات فالأسئلة وقد اصطدمت هذه الانطلاقة اولا بعناصر الطبيعة المعرقلة له والممثّلة اساسا في الحيوان المفترس والمناخ ذي الجفاف بصهده وذي المثلج ببرودته وذي الطوفان بصواعقه وما ينتج عنها من متاعب معلومة عنده او غيرمعلومة مثل الفيروس فيبيح كل المحيط بالخوف والتساؤل والسؤال عن كيفية تأمين العيش والحياة لذلك اشتدّ الصراع بينه وبين الطبيعة وفي طور لاحق بيْن الانسان والانسان نتاجا لتأمين العيش والاستمرارفي الوجود وهو ما أوْجد علاقة السائد بالمسود وارتبط الصراعان بما يسمّى بالقديم والجديد على قاعدة الموجود فالتجربة فالبحث عما يفيد في الفصل بين المتناقضين لصالح هذا أوْ ذاك. منذ البدء امتلأ الانسان بالاحساس والمشاعر فكانت الفنون متنوّعة ومرتبطة لاحقا بواقع النقيضين معبّرة عن صالح هذا وذاك لقد كان الرسم والنحت والموسيقى والمسرح والادب والفلسفة.. كل انواع هذه الفنون ارتبطت بالانسان عبر طول معاناته في رحلته الطويلة فهي جزء من جسده هي تحويل نشاط دماغه واحاسيسه إلى واقع مادّي ملموس فبأيّ حقّ نقف ضدّ هذه الانشطة الحيّة ونتدخل في مضمونها فنقرّ هذا ونرفض ذاك ونبقي هذا ونتلف ذاك؟ ذاك هو تصرّف السلفيين اليوم خاصة هذه الهجمة انبنت علي قاعدة «والشعراء يتبعهم الغاوون» وتحطيم الاصنام بعد دخول المسلمين الى مكّة، هكذا وبكل بساطة يتمعّنون فيحلّلون فيستنتجون فيمارسون لقد حطّم المسلمون الاوائل تلك الاصنام على قاعدة رمْز يجب محوه في ذلك الظرف لانّه مناف لمصلحتهم السياسية وهم الصاعدون إلى الحكم جديدا اما الشعر فكان حسّان بن ثابت صحيفتهم الادبية الرسمية هذا اضافة الى اشادة الرسول ببعض شعراء الجاهلية وبعض المقاطع الشعرية واستمرّ الشعر حتى الايام الاولى للحكم الاسلامي بكلّ آغراضه فلم يقتل واحدٌ على أساس انه شاعر والخطيئة على سبيل المثال واصل حياته وهو الهجّاءُ العنيف... الفلسفة بمفهومها الشامل ممنوعة من التدريس في جامعات الخليج ومعاهدها والرسم ممنوع في المؤسسات التعليمية منعا باتا او خلال شهر رمضان كما في «عبدة» السعودي يغزو الجزيرة العربية كما المجال مفتوح لفاتنات مقدّمات البرامج والمسلسلات التلفزيونية بشرط الا يكنّ خليجيات وخاصة المنتميات الى الاوساط الماسكة بالحكم والمال ممنوعات من قيادة السيارة فكيف لهنّ الحق في امتهان الفنّ الابداعي حتّى نزار قباني ممنوع وليس فقط لانه الهاجي بقوله الشهير «يا جملاً في الصحراء لم تُلجم»! هنا لا نستغرب تدخّل دور الطباعة والنشر في حذف ما يقرّ المشرفون من صفحات كاملة من الطبعات الجديدة لأمّهات الكتب القديمة لانها لا تُقارب الجاهلية الجديدة في الفكر. كان أمرًا مفْزعا حتّى تنبّه بعضهم الى ضرورة التصدي لهذا المشروع الهدام فكان جمال جمعة ينجز بحزم مشروعا تمثّل في جمع ما حُذف من الكتُب القديمة. ببساطة انّ من الاسباب التي جعلت الجاهلية الجديدة تقف ضدّ الفنون هي أنّ هذه الفنون ترتقي بالمرأة الى مرتبة الانسان الموحّد بين ذكره وأثناه، ابداع الفنون هو تصدّ شرس لا يقبل المساومة لمن يرى في المرأة متعة جنسية لا غير فهي الوعاء الذي يفرغ فيه الرجل كبْتهُ الجنسيّ والفكريّ تحت راية تحليلهم تعدّد الزوجات و«ما ملكت الايمان»، الجاهلية الجديدة تنزل بالانسان الموحد إلى دون مرتبة الحيوان الابكم فهذا الحيوان لم يجعل من أنثاه متعة جنسية ناتجة عن الكبت فهو يجد فيها الحقّ الطبيعي لممارسة الجنس ولاستمرارية النوع وبطريقة منظّمة أيضا وهو الشرط الاوّل. فهل يصلُ دعاة الجاهلية الجديدة يوْمًا إلى مرتبة الحيوان الأبكم؟ أبدًا لن يكون.