صعب جدا ن تقف أمام الرجل في حديث صحفي مرتب الاسئلة ومحدد الاهداف والمقاصد... صعب جدا ان تحاصره بسؤال معين ويرد عليك في المقصد المأمول... الرجل يحمل على كتفيه تاريخا طويلا مثقلا بالحنكة والتجارب... انسيابه في الحديث بجرأة واستفاضة... بثقة في النفس وبصراحة متناهية لا يترك لك مجالا للمقاطعة أو حتى اعادة توجيهه نحو السؤال الملقى عليه الى درجة الشعور بأن كل اسئلتك التي كانت مرتبة تبعثرت... الرجل يستحضر التاريخ وتمفصلات الاحداث والوقائع كأنها تتم البارحة... مرّ من عدة مواقع ومحطات وتقلد اكثر من منصب وجمع بين العديد من المسؤوليات... شكل بشخصيته القوية لسنوات طويلة من الزمن رمزا من رموز بناء دولة الاستقلال... صعد في لحظة تاريخية فارقة في حياة تونس الى سدة الامانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل ولم يغادره الا بعد ان ترك اثرا حدد مفهوما للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بتونس المستقلة حديثا... عاوده الظهور للمشهد السياسي العام خلال الايام الاولى لثورة 14 جانفي... ثورة الحرية والكرامة ظهر بمبادرة سياسية عرفت بمبادرة بن صالح المستيري كان من ابرز مفاصلها الدعوة الى بعث برلمان ثوري ممثل بكل الجهات. «الشعب» اغتنمت مناسبة احياء الذكرى السادسة و الستين لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل لتدخل بيت السيد احمد بن صالح بعد ان رتب لنا اللقاء مشكورا الاخ مصطفى المديني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة فكان الحوار التالي: سي أحمد تتزامن ذكرى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل هذه السنة مع أول ذكرى لثورة الحرية والكرامة يوم 14 جانفي... ما الشعور الذي ينتابكم وقد كنتم احد الامناء العامين للاتحاد؟ في ربيع سنة 1954 حين دعيت من بروكسيل اين كنت اعمل بالكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة كممثل للاتحاد للمساهمة في اعداد مؤتمر الاتحاد ولم أكن أعلم أبدا انني سأترشح للهيئة الادارية للاتحاد، لكن بعض الاخوة طلبوا مني الترشح فرفضت واتصلت بعاشور في اقامته الجبرية بالمحرس والتليلي في اقامته الجبرية بمنوبة وتحادثت معهما فلم يمانعا بل قالا لي يجب ان تترشح عندها قبلت ووقع انتخابي أمينا عاما في مؤتمر انعقد بمدرسة البنات المسلمات أفرز قيادة متجانسة منسجمة عملت من اجل استكمال استقلال تونس وكرست خيارات سياسية واجتماعية واقتصادية ديمقراطية برزت بالخصوص في برنامج اقتصادي واجتماعي تم اعتماده من قبل الحزب في البدايات الاولى لبناء دولة الاستقلال كمنوال للتنمية وصدرت عن المؤتمر لائحة سياسية تحت عنوان: «Assez de violence ... Négociez avec Bourguiba» ما هي خاصيات تلك المرحلة؟ جرح حشاد مازال ينزف والخلاف على اشده بين بورقيبة وصالح بن يوسف وعاشور والتليلي في الاقامة الجبرية والمفاوضات جارية من اجل اتمام استقلال تونس واوضاع اجتماعية واقتصادية مترهلة ومتفجرة. بعد ان تبنى الحزب البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد واعتمده في لوائحه كمنوال تنمية ماذا كان رد بورقيبة؟ قال لي انه برنامج شيوعي ولن اتركك تنفذه وفي الاثناء استمر الاتحاد بالعمل على المصالحة بين بورقيبة وصالح بن يوسف. ثم جاءت إقالتك؟ علمت بذلك وانا في المغرب في مهمة نقابية تهم توحيد نقابات شمال افريقيا... اتصلت هاتفيا بأحمد التليلي وقلت له مبروك عليكم ولما نزلت من الطائرة بمطار تونس وجدت مئات النقابيين والمسؤولين السياسيين وكأن هناك جنازة. ماذا كان موقفك؟ بعد وصولي مباشرة الى تونس توجهت الى دار الاتحاد وقدمت استقالتي كتابيا وبعدها وقعت دعوتي لحضور اجتماع المجلس الوطني وطلبت مني الكلمة فاكتفيت بالقول انكم لن تستطيعوا فعل اي شيء واكتفيت بما قيل «مروا بين المسامير سكوتا ولو كانت المسامير مقلوبة». وبعد...؟ واصلت مسؤولياتي كنائب أول لرئيس المجلس القومي التأسيسي ورئيس لجنة صياغة الدستور حتى جاءت الجمهورية وكنت احد اعضاء الحكومة الاولى بعد الاستقلال. سي أحمد ماذا تمنيت لبورقيبة؟ تمنيت لو ان بورقيبة تحمل رئاسة المجلس القومي التأسيسي وصالح بن يوسف رئيس الحكومة...! وان تشرع تونس في بناء استقلالها على اساس نظام برلماني استجابة لاحداث 9 افريل. ماذا كنت ترى في ثالوث الحركة الوطنية والنقابية الذين عاشرتهم، فرحات حشاد وأحمد التليلي والحبيب عاشور؟ حشاد كان نابغة اجتماعية وسياسية سابقة لعصره بكثير... كان على خلق عظيم واحد المبشرين المبكرين بالديمقراطية ناهيك انه في مؤتمر الاتحاد سنة 51 وعند مناقشة مسألة الخروج من ال FSM شعر فرحات بأن هناك ارتباكا في صفوف النواب فعرض المسألة على التصويت السري اما الحبيب عاشور فعرفت انه بالامكان ان يكون الوريث الشرعي لفرحات حشاد ودافعت عنه في كل محنه واحمد التليلي سياسي متمرس ارتاح اليه وأفهمه من الغمزة. سي أحمد كيف ترى الاتحاد في هذه المرحلة؟ أعتقد ان الوجه الاجمل للاتحاد هو الذي كان عليه زمن الكفاح التحريري... الزمن الذي تحمل فيه النقابيون مسؤوليات جسيمة وتاريخية من اجل استقلال تونس وبناء دولتها الحديثة. يعني أن لديك مآخذ على ادائه حاليا؟ قد أكون لمست ذلك في السنوات الاخيرة من خلال قبول الاتحاد ببعض سلوكات النظام السابق وقد أكون وقفت عند بعض الهنات في القيام بدوره خلال هذه الثورة برغم الزخم النضالي لقواعده وهياكله في كل الجهات واسهاماتهم الفاعلة في تحديد مسار الثورة... شخصيا اصبت بشيء من الخيبة في ما ذهب فيه الاتحاد لانه لا يعكس الدور الحقيقي للاتحاد ولا يستجيب للمأمول او المطلوب واعتقادي ان ذلك قد يعود الى ضغوطات مورست على قيادته. ما الذي كان بإمكان الاتحاد فعله اكثر مما فعل؟ ثقل الاتحاد الاجتماعي والسياسي وارثه النضالي التاريخي به من التجارب والدراية والتصورات والرؤى المستقبلية ما يفعل دوره في المرحلة الراهنة ويجعله رائد تحقيق اهداف الثورة اذ لو عكس الاتحاد المسار باتجاه ترتيب الاولويات على خلفية شعارات الثورة واساسا منها المتعلقة بالتشغيل والكرامة والحرية لما شهدنا كل هذه الاضرابات والاحتجاجات والاعتصامات والتي تم اللجوء اليها على خلفية أن الثورة قامت تحت استحقاقات شعبية واضحة. هل من رسالة للاتحاد؟ الاتحاد لم يزرني منذ 55 سنة وفاجأتني منذ عامين زيارة سي عبد السلام جراد وسي عبيد البريكي وعدد من المناضلين النقابيين (سكت لأشتم من سكوته رائحة اللوم والعتاب ولم يخبرني بطبيعة الزيارة) ثم عاد ليقول لماذا لم يتكلم الاتحاد في اي مناسبة عن اللجنة الوطنية للدفاع عن الحقوق الديمقراطية والتمثيل الشعبي التي اسسها حشاد واضاف لماذا لم يبادر الاتحاد الى حد الان ببعث معهد حشاد للدراسات المستقبلية. سي أحمد تونس من بورقيبة الى بن علي ما هي الثوابت والمتغيرات؟ بورقيبة ترك دولة وطنية بكل مقومات الدولة من ادارات وصناعات وبنية تحتية وترك في أرشيف الدولة خزائن مملوءة بدراسات ومشاريع اقتصادية واجتماعية حسب خصوصيات كل جهة وكل معتمدية وكل قرية مبنية منذ البداية على اسس العدالة والديمقراطية والحداثة بينما النظام السابق هدم كل شيء ولم يكف عن التهديم. سي أحمد تحركت في الاسبوع الاول للثورة باتجاه اعلان مبادرة سياسية مع من كانت وما ابرز عناوينها وهل كانت لك اتصالات مع شخصيات سياسية سابقة؟ نعم اتصلت بسي احمد المستيري واقترحت عليه القيام بمبادرة سياسية تقوم في ركنها الرئيسي على بعث برلمان ثوري ممثل بكل الجهات يعمل على الجانب الاقتصادي والاجتماعي في مرحلة اولى ثم يعد لدستور جديد يقع عرضه على الاستفتاء الشعبي. هل كان ذلك ممكنا في ظل البرلمان السابق وقيام الحزب الحاكم... حزب التجمع؟ كان بالامكان ذلك خاصة وقد تم حل الحزب والبرلمان مع اني لم أكن مع حل الحزب لكنني اقف الى جانب تطهيره من رموز الفساد السياسي. إذن المبادرة ولدت ميتة؟ لا ... وصلت قصر الحكومة في اليوم الخامس للثورة حيث استقبلنا السيد فؤاد المبزع الرئيس المؤقت يوم 19 جانفي ودار بيننا حديث ونقاش حولها وكنا على قناعة بحظوظ نجاحها على الاقل بنسبة 70 ٪ وخرجنا على امل تفعيلها. وقد قال لنا اذا لم يكن بالامكان استغلال قصر باردو فسأجد لكم مكانا بالقصبة. لماذا لم تر النور اذن؟ المشهد السياسي طبعته التجاذبات السياسية والتحالفات فتراجع سي فؤاد عن موقفه وتلاشت المبادرة. الآن وقد حصل الذي حصل الى اين ترانا نسير؟ لا أستطيع تحديد ذلك لكني أرى مسارا مغايرا لما جاءت من أجله الثورة وحقيقة مقاصدها فما تم الى حد الآن هي ترتيبات لا تستجيب لطموحات الوضع الجديد، اذ من الخطإ ان نستمر بتغليب الجانب السياسي على جانبي المسألة الاجتماعية والاقتصادية فالاستقرار والامن يمران حتما عبرهما. ما تقييمكم للمشهد العام الآن؟ مازال المجلس الوطني التأسيسي غائصا في الاعداد للدستور ولا نعلم كم سيستغرق ذلك ومازالنا بعد لا نعرف اين تتجه الحكومة وماذا ستصنع حتى ان بعض معالم توجهاتها خاصة على مستوى التعاون الدولي لا تبدو كافية فالوجهة الصحيحة يجب ان تكون باتجاه المغرب العربي الكبير اولا ثم العالم العربي والافريقي فأوروبا وغيرها. وأعتقد ان ما تم الى حد الآن هو استسلام لرضاء أجندة لا نعلم حقيقة وجهتها. هل تعتقد ببدائل جدية ذات مشروعية شعبية ومانعة لكل استمرار بالخطأ؟ المسؤولية ملقاة على عاتق الاحزاب الوطنية التقدمية ومنظمات المجتمع المدني واساسا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي نرى في اعترافاته في مؤتمره الاخير ببعض الاخطاء علامة صحية ستعيد للاتحاد بريقه وتوجهه واذا ما تم التنظم في تكتل قوي وتحملت هذه الاحزاب مسؤولياتها فبامكانها حينئذ اعادة صياغة الحاضر على أنقاض تصفية تركة الماضي والتوثب نحو المستقبل ببرامج صحيحة وواقعية تقوم عليها هياكل استشارية في كل الميادين فالمرحلة ثورية وتقتضي محاصرة كل الاخطاء.