لا تزال زيارات بن علي الى بعض الولايات والمناطق التونسية عالقة بأذهاننا، لقد كانت تلك الزيارت مرفقة بالأهازيج والزغاريد ومنمقة ببهرج الألوان التجمعية والهتافات بحياة «صانع التغيير» وحامي الحمى. المخلوع أو الفار كان في كل مرة يقدم وعودا ويضع حجر الاساس لمشاريع وهمية لا أساس لها من الصحة. لقد خلف ذلك مأساة او تراجيديا لدى عموم الشعب خاصة لدى متساكني المناطق الداخلية الذين كانوا وما زالوا في اشد الحاجة الى حلول لمشاكلهم المتفاقمة يوما بعد يوم. الآن عند تسلم الرئيس الجديد السلطة قام هو الآخر بماراطون من الزيارات الى مناطق عدة من البلاد. بين بن علي والمرزوقي فروق عديدة فالأول منقلب والثاني منتخب، وبين الشرعية واللاشرعية أشواط كبرى، لكن بين زيارات بن علي وزيارات منصف المرزوقي تشابه في مستوى الاقوال، هذ يعني ان الرئيس الجديد مطالب بترجمة شرعيته الى افعال ملموسة على ارض الواقع. فقد سئمنا الدروس والخطب الرنانة حول الديمقراطية وحقوق الانسان والبيئة والحرية. ان تغير السلطة السياسية في تونس لم يُفضِ بعد الى تغير الوضع الاجتماعي والاقتصادي وهذا ما يجب ان تفهمه السلطة السياسية اليوم وهو ان الامر المنوط بعهدتها هو الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي وليس أدلجة العقول والعودة الى الخطاب التقليدي وانها من حيث كونها سلطة شرعية توجب تنبيهها الى ان الشرعية قد تفضي الى اللاشرعية. كيف لا؟ حين يزداد الفقير فقرا والغني غنى والاقتصاد عجزا، ثم يحدثوننا عن ثورة! ان الثورة لا تعني تنظيما سياسيا منتخبا فقط بقدر ما تعني ايضا تحقق المساواة والعدالة الاجتماعية وتعافي «الاقتصاد». بوضوح اكبر أقول بأن هناك مسائل مهمة وعاجلة لم تعد تحتمل الانتظار اي ان مسائل الفقر والبطالة وتجاوز الركود الاقتصاد اهم من الحديث عن الانجازات السياسية. تطالعنا في تونس اليوم ارقام مفزعة عن الفقر المدقع والجنون والتسول والهجرة «غير الشرعية» مع اني افضل ان اطلق عليها هجرة سرية لأننا لو تأملنا في اسبابها لأضفينا عليها صفة الشرعية الى جانب انتشار كبير لمرض السيدا الذي لا يزال التعتيم واضحا على اعداد المصابين به. فبين مهاجر ومعتوه ومتسول او مريض وعاطل عن العمل ينقسم افراد الشعب اليوم. كان لابد ان نقول انه بين الزيارة والزيارة تضحي الزيارة تراجيديا ولكنني ارجو ان لا تتحول التراجيديا الى كوميديا. لاني سأكون وقتها قد جننت في مكان منزو، رجاء لا تزوروني! لاني اضحيت مجنونا شرعيا كسائر افراد الشعب او مهاجرا غير شرعي. فبين لا شرعية الهجرة وشرعية النظام تكمن تراجيديا الزيارة اي مأساة السياسة. وبين شرعية الجنون وشرعية النظام تكمن عصا السلطة وقوة الخطاب المؤدلج فتكون كوميديا الزيارة على شاكلة مواطن يضحك. انه تأثير مخدر السلطة وليس مخدر «الزطلة». أما بين التسول والتوسل فلا وجود هذه المرة لفَرْق يُذكر.