بين البوليس الذي يضرب بأمر ويكف عن الضرب بأمر آخر، وبين الوزير الذي يبرر العنف الممنهج ويجعله مطية لإعادة الاستبداد والقمع، وبين تعلة «تجار» شارع الحبيب بورقيبة الذين يبيعون فنجان قهوة بأكثر من ثلاثة دنانير... ومع الانقلاب الكلي لخطاب رئيس الحكومة حول «كنس» التجمعيين والدستوريين، وكذا رئيس حركة النهضة (الذين كانوا يتحدثون قبل الانتخابات عن «التجمعيين النظاف»... بينهم جميعا يتقلب الزعيم الحبيب بورقيبة تحت لحود قبره، ويرى كيف يكسر الحقد والضغينة كل الحواجز والقيود ليتجلى في أبشع مظاهره. من هذه الزاوية أحاول أن أقرأ استماتة حركة النهضة في قتل الحبيب بورقيبة رمزيا أكثر من مرة، فوزير الداخلية يقرر قطع الحياة الحرة في شارع الحبيب بورقيبة، ورئيس الحكومة يقتل مفهوم الزعامة البورقيبية وينسف إرثا سياسيا من تونس الحديثة... وأعضاء الحركة لا يرون في بورقيبة إلا ذاك الكافر الذي شرع الإفطار في رمضان وفتح الباب واسعا للثقافة الفرنكفونية كما ينعتونها (وهي ثقافة إنسانية)... وعندما يقول رئيس الحكومة «إن الشعب اختار زعاماته الجديدة» فهذا مؤشر خطير على إمكانية عودة الاستبداد، لان الشعب الذي ثار على طغيان النظام السابق يرنو إلى تأسيس ديمقراطية أفقية قوامها القرار التشاركي والقاعدي لا الديمقراطية العمودية المتأسسة على القرار الفردي الذي يستفرد به الزعيم الواحد الأوحد. أما أخطر مؤشرات الاستبداد فهو المرور من زرع الفرقة بين الشعب الواحد إلى تقنين المواجهة بين الفريقين، فبعد أن تم تقسيم الشعب التونسي إلى جزء مسلم وجزء كافر، ها أن أحداث 9 افريل أكدت أن الشعب المساند للحكومة (حتى لا نقول المليشيات) بدأ في تطبيق العنف ضد الشعب الذي «يصر» على الحرية والكرامة لا الذي يريد إسقاط الحكومة كما يتم الترويج لذلك، لكن الأخطر من ممارسة العنف هو شرعنة هذه الممارسة واعتبارها حقا وواجبا (حديث وزير الداخلية عن حق التجار في الدفاع عن شارع الحبيب بورقيبة بالهراوات)، مثلما شرعت لذلك الحكومة تعنيف الإعلاميين في ساحة الحكومة من قبل أنصارها، وجعلت من مؤسسات الدولة فضاء للعنف بين أفراد الشعب الذي لا يشترك إلا في الفقر والجهل... وعندما يتحدث رئيس حركة النهضة عن «دعاة العنف الثوري والستالينيين» فان ورقة التوت تسقط، لان العنف الثوري هو الذي حرر الشعوب من اضطهاد المستعمر أو من استبداد حكامها، هو «العنف السياسي» الذي بفضله تنتصر الحركة الاجتماعية (لا حركة النهضة)، وهو غير العنف الهمجي الذي يتنامى اليوم في الشارع باسم «الجهاد»، والعنف الثوري أيضا ليس العنف المؤسساتي الذي تباركه الحكومة داخل المؤسسات الاقتصادية ذاك الذي ينسف العدالة الاجتماعية ويؤبد الاستغلال. إن الحرب الانتخابية التي دخلت فيها حركة النهضة لم تعد خافية على أحد، وتوظيف آليات الدولة واستثمار مواقعهم المؤقتة بدأت تظهر للعيان من خلال حملات التشويه والاتهامات التي تطال من جهة الدستوريين والتجمعيين ومن جهة ثانية تطال الأحزاب اليسارية، هذا فضلا عن العلاقة المتوترة مع الطرف الاجتماعي الاتحاد العام التونسي للشغل، وطبعا الاستعانة بالفئات الواسعة من الشعب الذي استمرأ «اللقمة الباردة».