عندما يخفت الضجيج وتصمت الغوغاء تتكلّم الحكمة ويرتفع صوت العقل... هذا ما نلمسه في البلاد اليوم منذ أطلق الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرته الوطنية... فلقد خفّت مظاهر التشنّج وهمدت فتنة كبرى على إثر افتعال أحداث العبدلية الكاذبة والتي كادت تؤدي إلى حريق يأتي على الأخضر واليابس أشعلها البعض عمدًا أو جهلا وغذّاها الارتباك والتسرّع والرغبة في الاستقطاب... فلقد تعمّد البعض منذ مدّة افتعال القضايا أو تضخيم بعض الأحداث البسيطة وإخراجها إلى النّاس البسطاء في صورة الحكايات العظيمة وجرى اللعب على الأوتار الحساسة المتصلة بعقائد الناس ومشاعرهم الدينية... فسَرَتْ بينهم الاشاعة سريان النار في الهشيم، وتركوا ما بين أيديهم ونسوْا لأجل ماذا ثاروا وعلى من ثاروا وانشغلوا بكل ما ألهاهم عن حقوقهم لعقود وعقود... لعبة تتجدّد: فواعلها مخرّبون وفلول المصالح المفقودة وعصابات الإجرام ومجموعات الإرهاب وقناصّة الفرص الانتخابية... وضحاياها البسطاء وقود الثورات وحطب الانتفاضات... لعبة قذرة تجعل من السياسة والسياسيين غولا كريها يستبيح الأخلاق والمبادئ والقيم من أجل الوصول إلى الغاية وهي الموقع والسلطة... لكنّها لعبة نارية قد تحرق أصحابها وتحرق كلّ من حوْلها وقد جرّبها التونسيون خلال الأيّام الثلاثة الأخيرة العصيبة فثبت أنّ السحر قد ينقلب على الساحر وأنّ اللعب على وتر المقدّسات سكين ذو حدّين وأنّ حبل الكذب قصير... يجب أن تعي النخب وأساسا من نصّبوا أنفسهم رهابنة وباباوات على دين يرفض الباباوية أنّ المقدّسات أمر عقائدي وليست موضوعا انتخابيا وأن يكفّوا عن وضعها موضع التجاذبات فذلك إساءة إليها وحطّ من قيمتها لا يرضاه أحدٌ. همدت الفتنة، بعد أن انكشفت بعض خيوطها لكن بعضها الآخر مازال غامضًا... وثبت يقينا أنّها خراب على العباد والبلاد... ولم يعد غير طريق واحدة أمام الجميع: التوافق عبر الحوار. إنّها مرحلة دقيقة واستثنائية بكل المقاييس تحتاج، إلى جانب شرعية الصندوق، شرعيةَ التوافق.. وهي كلمة السرّ في مبادرة الاتحاد التي ستفتح المغالق وترأب الصّدع وتجمع الكلّ على كلمة سواء: مصلحة تونس. ومصلحة تونس تكمن في إنقاذ ثورتها لترسي نظاما سياسيا ديمقراطيّا يمنع عودة الاستبداد، ونظاما اقتصاديا اجتماعيا عادلا يقطع مع الاستغلال والاستعباد. لقد قابلت جميع الأطراف مبادرة الاتحاد بالترحاب، لا «بالريبة» وذلك مؤشّر إيجابي ومشجّع.. لكن بعد الترحاب يأتي العمل والمتابعة والتجسيد... هذا هو الامتحان الذي ينتظره الجميع وبإرادة سياسية صريحة وواعية سوف ننجح فيه... أمّا غير ذلك لا سمح اللّه فالفتنة هامدة تنتظر من يحرّكها، وعلينا باليقظة حتّى لا تشتعل... وعلينا بالتوافق لنقطع عنها الطريق...