أعود إلى المشهد السياسي السريالي مرّة أخرى لأنّني لم أستوف تشكيل مكوّناته واكتفيت سابقا ببعضها.. فالثورة، كما خلعت رأس الدكتاتورية، فإنها أفرزت أيضا سلوكات ومظاهر وأشخاصا واتجاهات لا يمكن أن تثير غير القرف والتقزّز... فكلّ يوم تطالعك وسائل الإعلام بالغرائب والعجائب عن أناس كان من المفروض ونحن نتحدث عن سياق ثوريّ أنّ تنفّذ فيهم العدالة الثورية، وفق قوانين التاريخ المعروفة والتي جرّبتها شعوب كثيرة فأتت أكلها، فإذا بهم، وقد أفلتوا من عدالة ثورية لم تنصب، يستبقون الأحداث ويغيّرون ولاءاتهم ويضعون لأنفسهم مظهرا جديدًا وصورة مغايرة لما كانوا يسيرون عليه سابقا فيتحوّلون بقدرة قادر إلى وطنيين وإلى أبطال وينسبون لأنفسهم كلّ ما كانوا قبل الثورة يدينونه ويشجبونه. وتزداد جرأتهم فيحتلّون مواقع هجوميّة تصل إلى التعدّي على الوطنيين الحقيقيين وسبّهم واتهامهم بكلّ الفظاعات التي كانوا يسلكونها هم من تزلّف للسلطة وتقرّب لأصحاب القرار السياسي ومن سمسرة ووشاية وفساد ورشوة ونهب وسلب وغيرها من الفظاعات التي مازال أصحابها يطلّون علينا بها بلا حياء ولا خجل وبوجوه «مقصدرة»!! كل يوم يمرّ تزداد صفاقتهم لأنّهم يعوّلون على قصر ذاكرة الناس وعلى الطريقة السيئة والثقيلة والمريبة في إدارة ما تسمّى «بالعدالة الانتقالية»... كما يعوّلون على خبرتهم الحربائية في التأقلم مع كل واقع جديد... بعض المحلّلين اعتبروا هذه الصفاقة نوعًا من العلاج النفسي لمجموعات كثيرة تعوّدت على البروز وعلى مواقع السلطة والقرار على المنافع ووجدت نفسها بعد 14 جانفي في هوّة سحيقة من الفراغ والضياع.. واختفت مدّة «تتليفًا» ثمّ بدأت تطلّ من جحورها ويوما بعد يوم راحت تستعيد الثقة في النفس إلى أن اكتشفت انّ الصفاقة وانعدام الحياء هي خير علاج... تذكّروا من هؤلاء تلك المحامية / «الناشطة الحقوقية» وذاك المتحدّث الدائم باسم السلطة في الجزيرة / التائب بعد الثورة... وغيرهما كثير... ومن هؤلاء أيضا القلة القليلة من الأعراف من مصّاصي دماء العمّال ومن الذين أثروا بنهب المال العام عبر الحصول على المليارات من القروض دون رجعة وعبر الامتيازات التي كانت تغدق عليهم بسبب تقرّبهم إلى العائلة الفاسدة، هؤلاء، انتظروا مرور العاصفة، بعد أن حمى العمال مؤسساتهم وواصلوا انتاجهم وعطاءهم وتضحياتهم، ثمّ خرجوا من جحورهم ليصنعوا لهم عذريّة جديدة لم تكن فيهم أبدًا، واستعملوا المال الفاسد للإغراء والإغواء لاستمالة أصحاب القرار الجدد، ووضعوا أنفسهم في الخدمة، من أجل إنجاز ترتيبات تقيهم عبء المساءلة وتمنع عنهم حقّ المحاسبة... ومن بينهم صاحب مؤسسة موبلاتاكس الذي تحوّل بقدرة قادر إلى وطنيّ غيور يختم بياناته ب «عاشت تونس منيعة أبد الدّهر» تماما كما كان يفعل وليّ نعمته المخلوع ويدفع الثمين الثمين من أجل أن تُلتقط له صورة هنا أو هناك مع هذا أو ذاك، ويتجرّأ لينعت العمّال بالمخرّبين ويتهم نقاباتهم باللاّوطنيّة ويُجبر العمّال على الإمضاء على الانسلاخ من الاتحاد العام التونسي للشغل مقابل العودة إلى العمل... فعلا إنّه مشهد سريالي يثير العجب... يتحوّل فيه اللصوص إلى وعّاظ والوطنيّون إلى خونة... ومازلنا نرى ونسمع... أمام صمت السلطة المريب وأمام غياب مطلق للعدالة الانتقالية...