إنّ من أهم أسس الحكم الرشيد الشفافية التي في نظرنا بوجودها تتحدّد أهمّ مقوّمات الحكومة وبغيابها تنتفي وتسود الفوضى والارتجال وسوء التصرّف والمغالطة والخداع والتزوير... وهي بلا منازع أهم مواصفات فترة حكم المخلوع بن علي... حقبة من الحكم الفردي بكلّ ما حملته من علل تعطي أبلغ الأمثلة على غياب الحوكمة بما تعنيه من مأسسة الدولة وسيادة القانون وشفافية التسيير ووضوحه وغيرها... وعندما جاءت ثورة الحرية والكرامة حلمنا بأن نقطع ولو تدريجيا مع هذا النّوع البغيض من الحكم ولاحت أولى البشائر بإصدار المرسومين عدد 41 و54 المتعلّقين بالنفاذ إلى الوثائق الادارية، في خطوة أولى إلى التأسيس للحق في المعلومة تنزع عنّا عقودًا من التعتيم والمغالطة، وانتظرنا طويلا تفعيله دون جدوى... ولئن نزعت بعض هياكل الدّولة في البداية إلى تسهيل النفاذ الى المعلومات التي بحوزتها، فإنّها سرعان ما انغلقت على نفسها من جديد تحت طائلة التّعليمات لتعود إلى «صنعة» احتكار المعطيات والتقطير في إعطائها وانتقاء ما يقدّم منها بحسب مزاج السياسي... ولعلّ ما يحدث في المعهد الوطني للإحصاء خير دليل على هذا المنزع، إذ يطال رأس ادارته تغيير مفاجئ وصامت في ظلّ الجلبة التي كانت تشدّ اهتمام الجميع إلى موضوع محافظ البنك المركزي... وهي حركة مخاتلة سنكتشف عن نواياها لاحقا عندما يقدّم هذا المعهد معطيات خاطئة حتّى لا نقول غير ذلك عن مؤشرات الفقر (وقبلها عن معدّلات النموّ!).. ولننتظر الأسوأ... مؤشرات كثيرة تدلّ على أنّ مبدأ الحوكمة ظلّ لَغْوًا وتسويقًا خارجيّا والحقيقة الواضحة هي غير ذلك.. لأنّ غياب الشفافية هو السائد في عديد الاجراءات.. فصفقات عموميّة متعدّدة تنجز بسرّية تامّة ومؤسسات عمومية وأخرى مصادرة توضع للتفويت بعجلة وهرولة وبلا كراس شروط واضح ودون تقييم علمي حقيقي ووفق تمشّ خاطئ يضرّ بهذه المؤسسات ويهدّد الاقتصاد ويسيء إلى سمعة الثّورة... وزراء لا يصرّحون بما يملكون ونُفاجأ بتسريبات إعلاميّة تخلق البلبلة وتثير أكثر من سؤال... إعفاء موظّفين وتعيينات بديلة عنهم لا تخضع إلاّ إلى منطق الولاء والانتماء والمحاباة... وأحداث كثيرة تقع في البلاد وتمسّ حتى أمنها الوطني تمرّ في ظلّ تعتيم مطلق من الجهات المعنية بإنارة الرأي العام وتمكينه من حقّه في المعلومة... وغموض متعمّد في أرشيف وزارات عديدة وخاصّة منها السيادية... إلى أين ننحدر؟! هل هذا هو النموذج المنشود للحوكمة الرشيدة؟ ينبغي الاسراع بمراجعة الأمر وإلاّ فإنّنا لا نفعل غير إعادة انتاج القديم وهذا القديم لم يكن غير الفساد والافساد.. ولم يكن غير الاستبداد.. صنوان متلاصقان حيثما وجد أحدهما وجد الثاني.. لذا من الواجب إرساء أسس الحوكمة بدءًا بالشفافية وتفعيلاً لها يجب تفعيل المرسوم عدد 41 والتصريح بأملاك كبار مسؤولي الدولة وفصل السلطات فعليا واحترام استقلالية عديد المؤسسات ومنها معهد الإحصاء، ونشر الاحصائيات في إبّانها والافصاح عنها كما هي دون تعديل، ونشر التقييمات والتدقيقات الخاصّة بكل المؤسسات العموميّة والشركات المصادرة واحترام التراتيب في جميع الصفقات العموميّة، وإبعاد الشبهات عن كلّ الأنشطة التي تخرق أخلاقيات المهنة أو تسيء إلى مركز كلّ مسؤول سياسي وكل من يتصّل به من عائلته، خاصّة منها التي تشكّل استغلالا للنفوذ... وحماية الأرشيف الوطني وتنظيمه في مؤسسة مستقلّة... وتطوير هيئات الرقابة وتمكينها من استقلاليتها وسلطاتها. إنّ غياب هذه الخطوات وغيرها لا يخدم غير تدعيم نفوذ الفساد وشيوع حالات اللامسؤولية وانعدام الالتزام وفقدان الثقة والخوف من المستقبل... تماما كما في العهد البائد.