مثلت الثورة منعرجا هامّا في تاريخ الإعلام، ليتحرّر من الوصاية والتوجيه ويدرك رحابا أكثر حريّة، غير أنّ المرحلة التالية للثورة كشفت عن تحديات كبيرة تعترض العمل الصحفي وقد تحُدّ من فاعليته ومن النتائج المرجوّة منه، وأول هذه التحديات هي القدرة على التأقلم مع الوضع الجديد وفهمه وإدراك الدور المطلوب منه وهو الذي لم يتهيّأ عمليا للتحرّر من سلطة التوجيه والوصاية التي هيمنت عليه عقود طويلة. ولئن حاول الإعلاميون التقاط اللّحظة التاريخية لتقديم مشهد جديد قوامه الاستقلالية والمسؤوليّة والرغبة في قول ما يقنع الصحفي فإنّ تلك الأماني سرعان ما ارتطمت بواقع مليء بالتحديات والصراعات فوجد الإعلاميون أنفسهم في حرب لا هوادة فيها. سواء مع السلطات الجديدة التي تحاول بسط وصايتها ونفوذها على الإعلام لتروّج لنفسها وبرامجها فلا يفارق الإعلام حدود العادة ولا يخرج من بيت الطاعة، وقد شهدنا لتحقيق هذه الغاية حملات قادتها الأحزاب الحاكمة لتركيع الإعلام وحرمانه من الانتقال من إعلام حكومي إلى إعلام جمهوري ولعلّ أخطر تلك المحاولات كانت في الاعتصام المفتوح أمام مقرّ التلفزة التونسية والذي حمل من بين شعاراته «إعلام العار». أو مع العادات القديمة التي درج عليها البعض والتي ترفض أن تتحرر من الوصاية. وقد يقول القائل إنّ وفرة وسائل الإعلام بعد الثورة من إذاعات وتلفزات ونشريات دليل على مناخ الحرية الذي أصبح يتمتع به القطاع، غير أنّ الواقع يفنّد هذا الرأي على اعتبار أن الوفرة لا تدلّ ضرورة على مناخ الحريّة، فقد تزامن هذا الانفجار الإعلامي مع النيل الممنهج من سمعة الصحافيين واستعداء الرأي العام عليهم فضلا على تهميشهم اقتصاديا واجتماعيا ومهنيّا دون نسيان إغراق القطاع بالدخلاء الذين يفتقرون إلى التكوين المناسب والذين يزاحمون الصحافيين في قوت يومهم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى المستوى التكويني للصحفي وللممارس للعمل الصحفي، وهو مستوى هزيل في أغلبه يفتقر إلى التكوين السليم والعميق كما يفتقر إلى المهنية والحرفية اللازمة في التعاطي مع الخبر وهو ما يفسّر المآزق التي وجد الإعلاميون أنفسهم يدفعون ثمنها في كثير من الأحيان وهو ما يعني أنّ الواقع الإعلامي التونسي أمام تحدّ حقيقيّ يتعلّق بنوعية الإعداد الذي يخضع له الإعلاميّ وبالدورات التدريبية التي يجب أن تتوفر عدديا ونوعيّا بما يؤسّس لمعايير مهنيّة واضحة تمكّن الإعلاميّ من اكتساب آليات عمل تقيه من المزالق التي قد يقع فيها، خاصة في ظلّ واقع هشّ تضمر فيه الحِرفية في التعاطي مع الخبر وتكثر فيه التجاذبات التي عادة ما يكون الصحافي ضحيّة لها. وإذا تجاوزنا مسالة التكوين فإنّ الواقع التشريعي للعمل الصحفي يمثل في ذاته مشكلا كبيرا باعتبار غياب نصّ تشريعي معترف به ومحترم من جميع الأطراف يؤكّد على ضمان حريّة التعبير والصحافة ويؤمّن تنظيم القطاع وهو ما يجعل هذا البعد التشريعيّ مطلبا ملحّا يناضل الإعلاميون لتضمينه في الدستور الجديد للدّولة التونسية بما يكفل استقلالية القطاع. ويقيه من التعيينات الفوقية التي تلجأ لها السلطة لوضع يدها على الإعلام، وما الصراع الدائر حول دار الصباح إلاّ عيّنة ممّا يشهده القطاع من تحديات وتجاذبات في ظلّ ظروف عمل الصحافيين وما تعانيه المؤسسات الإعلامية من غياب للاستقلالية. هذا الغياب للاستقلالية لا يشمل القطاع العام فقط بل يتعداه إلى القطاع الخاص الذي كثيرا ما تجد مؤسساته نفسها مفلسة أو على حافة الإفلاس نتيجة الضغط على الخط التحريري للمؤسسة وذلك بحجب الدعم المادي واحتكار التوزيع والإعلانات ما أدّى إلى إغلاق عديد الصحف التي ظهرت في أعقاب الثّورة. كما يشهد القطاع الخاص إشكالات أخرى، قد يكون لها علاقة بالوضع المادي للمؤسسة ولكنّ ضحيّته هو ذاك الصجفي الذي يجد نفسه عرضة للطرد التعسّفي في غياب قانون يحميه. وأمام هذه الأوضاع المتحرّكة، وفي ظلّ ما يشهده القطاع من تجاذبات، يبدو المشهد الإعلامي اليوم أمام تحديات جديّة لعلّ أهمها ضمان حرية الصحافة والتعبير وتضمين هذا الحق في دستور البلاد. إضافة إلى تحييد المؤسسة الإعلامية عن تجاذبات السياسيين في كل مواقعهم، فالإعلامي وظيفته نقل الخبر بموضوعية وحيادية دون محاباة لجهة على أخرى ويتطلّب هذا الامر وعي الصحفي وإدراكه لماهية العمل الصحفي من ناحية وتخلي كلّ القوى الفاعلة في الشأن العام للبلاد عن محاولة تدجين الإعلام واستقطابه والعودة به إلى المربّع الأوّل مربّع الموالاة والتطبيل لطرف دون آخر . هذا إضافة إلى ضرورة تأمين عيش كريم للصحفي حتى يقوم بعمله على أكمل وجه دون تفكير في تدني المستوى المعيشي ولا تفكير في إمكانية الطرد التعسّفي مع كل خبر ينقله. فالقانون هو الضامن الوحيد للعلاقات بين جميع الأطراف وهو الذي سيحدّد للإعلاميّ ما له وما عليه. إنّ المطلوب من الصحافيين في هذه المرحلة هو الصمود والدفاع عن مبادئهم وعن حقهم في إرساء إعلام موضوعي ومحايد ونزيه يكفل الحريات ولا يكون أداة طيّعة في يد فئة توظّفها كيفما شاءت. والمعركة تتطلب جهود كل الإعلاميين الذين عليهم الالتقاء حول مشروع موحّد يكفل الخبر الجادّ ويحفظ كرامة الإعلاميّ فلا يُجبر على تأجير قلمه.