عرفت الساحة الفكرية والسياسية قامة الطاهر الهمامي وصوته منذ اكثر من أربعين سنة، قامته الفارغة كالسنديان، قد تجعلها الرياح تتمايل قليلا ولكنها ثابتة في الارض لا تنحني، مهيبة وكأنها قدت من جبال تونس، من الاطلس، من تلك المرتفعات التي تطل على (العروسة)، مواطن الطاهر الهمامي يحاجج خصومه، وما اكثرهم، بالقول اللين تارة وبالمنطق تارة اخرى... فيقسو احيانا على المتعنتين واصحاب الآراء المنغلقة... يفضحهم ويفضح ضيق آفاقهم، ويعريهم امام القراء وأمام قوى الرأي العام. صوته يجلجل في الملتقيات وفي مدارج الكليات وفي نوادي المعاهد الثانوية ودور الثقافة والشباب يحمل عصا ترحاله الفكري والأدبي، من شمال تونس الى جنوبها ومن شرقها الى غربها، بلا كلل ولا ملل. انتمي مبكرا الى الطليعة الأدبية، فكان فارس ميدانها بلا منازع، شعرا وتنظيرا فأصدر البيانات الشعرية وساهم في الملتقيات الادبية، منذ ملتقى الحمامات الاول، وهو الشاب المتقد حيوية، فأوغر صدور اصحاب التقليد والمحافظة على قشور أدب العصور القديمة، فكانوا يحاربون توجهاته التجديدية وثورته الشكلية والمضمونية التي كان ولم يزل يدعو اليها، لانه يعتبر ان الادب الحق ليس قوالب جامدة بل هو مثله مثل الحياة، تدفق وتجدد متواصل وبحث عن المغامرة، وإقدام يتماشى وقوانين الوجود، فاعتبره بعضهم خطرا على الأصالة الذاتية والموروث الأدبي، بل شكك بعضهم الآخر حتى في شاعريته، غيره من حضوره المكثف اعلاميا وانتاجا. واصل الطاهر تجديفه في الاتجاه الذي اختاره، دون ان يتأثر بتلك الأقاويل وتلك المحبطات، مثل حجز بعض كتبه او ابعاد نصوصه من ذلك المنبر أو ذلك الفضاء. أعد أطروحة عن الطليعة، ستبقى المرجع الاصلي لتاريخ تلك المرحلة، لما بذله فيها من تجميع لكل نصوص تلك المجموعة وللمجهود العلمي الواضح في التبويب والتحليل والاستنتاج، ولن ينقص من قيمة هذه الأطروحة تلك الخريشات المنحازة التي ظهرت هنا وهناك، والتي لم يكن من هدف لها الا الاساءة للرجل وإلصاق نعوت كيدية به لا لشيء الا انه الصوت الذي بقي صريحا، معارضا، واضحا، يرفض التذيل أو الانبطاح او التصفيق والتطبيل. ولعل من اشرف الشهادات للرجل ولأدبه ما صرح به في جلسة عامة لأحد مؤتمرات اتحاد الكتاب التونسيين في التسعينات عضو شبه مثقف متزلف للسلطة لعلّه ينعم بفتاتها ودعمها لمشاريعه حين قال معقبا على انتقادات الطاهر الهمامي لأداء الهيئة المديرة : يجب ان لا نعير ما انتقد به الطاهر الهمامي اي اهتمام وذلك لانه قال نفس الشيء السنة الماضية، وسيقول نفس الشيء بعد سنة، فهو لا يعجبه شيء، مثله مثل صديقه عبد الرحمان عبيد وجلول عزونة. ولعل من الشهادات الاخرى على استقلالية الطاهر الهمامي عدم التمديد له في الجامعة حين بلغ سن التقاعد منذ عام ونصف لانه من المعلوم انه لا يمدد لأمثاله من المستقلين والمعارضين. ويبقى شرف الهمامي وأمثاله من الاحرار، ايمانهم بقوة الكلمة واثرها آنيا ومستقبلا، فقد بقي يكتب الى آخر رمق من حياته فأصدر كتابين اثنين هذه السنة كان آخرهما منذ شهرين فقط. رحم الله الطاهر الهمامي، الشاعر والكاتب والأكاديمي رجل المبادئ ورجل القيم... وانما المرء كلام بعده. *صدر في جريدة الموقف