قام الفيلم على بنية دائرية (من الميناء الى الميناء) مقسومة الى نصفي دائرة أو عالمين يفصل بينهما خط عازل يتمثل في التقاء «بهتة» «بأمير الجماعة». فبطل الفيلم «بهتة» (لطفي العبدلي) انتقل من عالم الى آخر مناقض له تماما: من الحزام الراقص إلى الحزام الناسف من الرغبة في «الحرقة» الى أوروبا الى الاحتراق في حاوية بضائع لشركة أوروبية من أغاني الراب ورقص الهيب هوب الى قراءة كتب «الفكر» السلفي من مسك الشمعة لاصدقائه عند ممارستهم للجنس الى الواعظ المتطرف من الافتتان بصورة تشي غيفارا الى الافتنان بصورة بن لادن وهنا يتساءل المتفرج عن سر الهشاشة في شخصية «بهتة» لماذاتم تحويل وجهته بكل سهولة وبدون مقاومة؟ لماذا انتقل من هامش المجتمع الى هامش المجتمع؟ «بهتة» / الاسلاك الشائكة طيلة أحداث الفيلم ظل «بهتة» يتخبط مصطدما بأسلاك شائكة: * سلك (1): عائلة «مثالية»: أب غائب / حاضر... غائب بحكم عمله (سائق تاكسي) حاضر بالعنف والقمع الذي يسلطه على «بهتة»، أم لا حول لها ولا قوّة، أخت مطلقة، جد متصاب شهواني وشبه مخرف. * سلك (2) سعاد سعاد حبيبة «بهتة» تقتله شكا وغيرة وحيرة وتعجز عن تعديل مسار حياته. * سلك (3) السلطة السياسية ممثلة في شخصية رئيس مركز الشرطة وظل حضورها يتعاود بكثافة طيلة أحدث الفيلم ... حضور قمعي صارخ يصف بهتة «بالرقاصة» وبأنّه «مش راجل» ويحرمه من الحصول على جواز السفر، ولاخر لحظة من «آخر فيلم» كان «بهتة» هاربا من «الشرطة». * سلك (4) : الفكر السلفي الاصولي حاول ممثلو هذا «التيار» احتضان «بهتة» واستغلال ديناميكيته و»شجاعته» لتحويله الى قنبلة بشرية موقوتة وذلك عبر عدة كليشيهات كاللعب على ثنائية الترغيب والترهيب (الجنة حور العين / النار، عذاب القبر) واستغلال (مأساوية الاوضاع في الوطن العربي والعالم الاسلامي) لقد أراد النوري بوزيد بهذه الاسلاك الشائكة / الخانقة ان يجسد رؤاه وقناعاته الايديولوجية، فبطل الفيلم كان محكوما بقدر محتوم (اختاره له خالقه / المخرج) يمضي به في نسق تصاعدي من الغليان والاحتقان الى أن تأتي ضربة الرحمة (الحزام الناسف) فينفجر في الميناء وسط حاوية كتب عليها (capital / رأسمال) في إشارة واضحة لدور المنظومة الرأسمالية في مأساة بهتة. * «بهتة» الهوية الغائبة / المغيبة يفترض أنّ الفيلم صور في تونس (بلد عربي إسلامي)، لكن... بهتة لا يعرف كلمة «زانية» وما معناها (لم أفهم جدوى الحركة البذيئة) ويبدو انه لم يعرف انّ هناك «شيئا» اسمه «الاسلام» الاّ عند لقائه «بالخوانجية» (هل هذه هي قراءة بوزيد لعلاقة المجتمع بالدين في تونس). بهتة يعرف «تشي غيفارا» ولا يعرف «عبد الناصر» بهتة صاحب «اللوك» العولمي راقص الهيب هوب على أنغام المزود، بهتة الذي يكتب أشجانه على ايقاعات «الراب» بلغة هجينة (مزيج من العربية المحكية والفرنسية).. بهتة هذا يمكن ان تجد مثله مئات.. في ضواحي باريس المشكلة ان بهتة ولد وعاش في تونس، والمصيبة انه درس الى حد الباكالوريا... ماذا قدمت المنظومة التربوية التعليمية لبهتة طوال 15 عاما من الدراسة؟ لماذا تحول بهتة الى «مسخ» حضاري؟ لماذا لم يستطع ان يتصالح مع واقعه ومحيطه؟ لماذا بدت شخصيات الفيلم وكأنها مجرد «عرائس من طين» لماذا كل هذا التبلد والتفكك؟ * بهتة» / الخلاص الفردي في بداية الفيلم كان بهتة يتوهم ان الخلاص من واقعه الرديء لن يكون الا بالحرقة/ الهجرة الى الجنة الارضية (أوروبا) ولكن حين لم بجد سبيلا الى جواز السفر الرسمي وحين حيل دونه ودون «الحرقة» (بسبب حرب أمريكا على العراق) التجأ بهتة الى جواز سفر آخر اي الحزام الناسف طمعا في نيل الجنة الأخروية (par mention) . وهنا أتساءل لماذا هذه الرؤية الضيقة المحبطة؟ لماذا انحصرت سبل الخلاص في اثنتين: الهجرة الى الله او الهجرة الى اوروبا؟ لماذا اصبح الخلاص الفردي هو الحل؟ * نوري بوزيد : المفاهيم.. المخلوطة / المغلوطة دفعت الغشاوة الايديولوجية مخرج الفيلم الى الخلط بين الارهاب والمقاومة فهي قراءته لظاهرة «العمليات الاستشهادية» (وهنا لا أقصد العملية التي صورها الفيلم) اصدر بوزيد حكم الارهاب والاجرام على هذه العمليات بالمطلق مبررا حكمه هذا بانها يمكن ان تستهدف المدنيين (هل يعتبر بوزيدالجنود الامريكيين وسكان الكيان الصهيوني مدنيين) متناسيا ارهاب «الدولة» الذي تمارسه امريكا والكيان الصهيوني على أبناء شعبنا العربي متناسيا ان هذه العمليات لم يلجأ اليها المقاومون الا عندما اغلقت كل الابواب أمامهم متناسيا ان هذه العمليات ليست وليدة «ثقافة موت» او هوس استشهادي بل هي ثقافة حياة لان الحياة بدون حرية هي موت يومي ولان الشهداء هم الذين يعبدون طريق التحرر والكرامة. الفيلم اخطأ في تحديد بداية الظلم الذي يعيشه العرب على يد «كلب حراسة الامبريالية» الكيان الصهيوني فليست «صبرا وشاتيلا» أول المشوار... هل نسي بوزيد نكبة 48 المخرج لم يستطع ان يميز بين مفهوم الجهاد في بداية انتشار الاسلام وبين الجهاد في زمننا الحاضر من حيث هو رد فعل مقاوم تجاه اغتصاب الارض والعدوان الخارجي فليغفر نوري بوزيد وكل مثقف «مرهف الاحساس» وقاحة المقاومين والشهداء وعدم تشبعهم بالمبادئ الانسانية. * النوري بوزيد:... القرآن المنقح يبدو أن مخرج الفيلم من الذين ينادون باصدار نسخة منقحة من القرآن الكريم نسخة خالية من الدهون وسهلة الهضم بالنسبة للدوائر الصهيو إمبريالية وعملائها من مثقفي الخدمات والمواخير والجمعيات النسوية وجمعيات حقوق الشواذ جنسيا والدوائر المطبعة مع الاحتلال الصهيو أمريكي. بمعنى أدق يجب حذف الايات المتطرفة والتركيز على الايات المعتدلة ولم لا يتحول الاسلام الى مجرد طريقة صوفية يرقص أتباعها على أصوات بنادير يدقها مثقفون منتهو الصلاحية. * النوري بوزيد: التصوير.. بعيون الاخر حين تشاهد «آخر فيلم» ينتابك شعور بأن اي مخرج فرنسي أو إيطالي أو أمريكي يستطيع ان يخرج هذا الفيلم بنفس الصورة التي اخرجها بوزيد فالفيلم غرق في بحر من الكليشيهات «الاستشراقية» والرؤى الما بعد حداثوية الغربية ومن أبرز هذه الكليشيهات نجد: المرأة في الوطن العربي يسوق الاعلام الغربي صورة المرأة العربية المضطهدة بشكل لا إنساني والتي لا دور لها في المجتمع والعائلة والتي تعاني أبدا من مجتمع ذكوري يعتبرها مجرد اداة للاشباع الغرائز... ولم يكن اخر فيلم بعيدا عن هذه النظرة فالنساء اللواتي صورهن بوزيد كُنّ إما أما عاجزة عن حماية ابنهاء او أخت مطلقة او حبيبة مشكوك في شرفها أو مومس او زوجة محبوسة. * الحجاب كثيرا ما تفتتت قلوب المثقفين من أجل المرأة المسلمة التي يجبرها الرجل على إرتداءالحجاب معتبرا اياها عورة يجب سترها حارما اياها حريتها الجسدية ولم يفت بوزيد في «آخر فيلم» أن يصور (يشكل متعاود وصارخ) المرأة المحجبة الوحيدة بين شخصيات الفيلم في واقع المرأة المسجونة وراء قضبان الشبابيك في اشارة واضحة الى الاستلاب والمعاناة. * الاسلام كثيرا ما تصف مراكز البحوث التابعة للنيو محافظين الاسلام بانه دين لا عقلاني انتشر بحد السيف وانه يمثل عائقا امام التنمية والديمقراطية والتقدم ولم يبتعد بوزيد كثيرا عن هذا الطرح فهو يعتقد ان القرآن تحول الى أداة غزو وانه لم يعد ينفع لزماننا هذا (هل نحيله على التقاعد) كما ان المخرج سقط واعيا في الخلط بين المسلمين والاسلاميين بين التدين والتطرف. * العائلة العائلة «التقليدية» هي احد رواسب البرجوازية والعائلة في الوطن العربي هي مؤسسة ذكورية بامتياز تمثل قمعا لحرية الفرد وحّدا من ابداعه وتخضعه لسلطة الاب وشيخ القبيلة في علاقات غير سوية.. هذا الخطاب اتقنه اليسار الصهيو أوروبي المعولم وفي اخر فيلم كان «بهتة» ضحية القمع الابوي (الاب، الشرطي، أمير الجماعة) والمرأة كانت ضحية المجتمع الذكوري لكن النوري بوزيد غفل عن دور العائلة كجدار صد اخير امام العولمة النيوليبرالية التي تعتمد التفكيك والهدم لتمرير مشاريعها. * النوري بوزيد: ضربة «معلّم» برهن بوزيد انه قناص ماهر يحسن تصيد اللحظة الانسب لتسويق أفلامه. ففي فيلمه الاخير تناول مواضيع ساخنة وطرية كالارهاب و»الحجاب» و»الفكر الاصولي» و»الوضع السياسي في العالم» والديمقراطية، وهي مواضيع احترف الاعلام السلطوي في تونس اللّف حولها فاحداث سليمان (عناصر إجرامية مستوردة!!) والحجاب (لباس طائفي دخيل على الاسلام التونسي!!!) والسلطة السياسية مهمومة بمسألة الديمقراطية (وهل هناك دليل اكبر على «ديمقراطية» هذه السلطة من «تسامحها» مع فيلم «ينتقدها» وربّ صدفة.. يضاف الى «حسن» اختيار التوقيت ابداع المخرج في استغلال مواهبه في صنع الصورة عبر مزيج فرجوي من الحركات والايقاعات والالوان والاماكن واللغات وما تيسر من الحركات الهابطة والالفاظ البذيئة مما يخول للفيلم جلب اكبر عدد من المستهلكين. * المثقف: جزء من المشكلة وليس من الحل حمل مخرج الفيلم مسؤولية دم بهتة للاصوليين والمنظومة الرأسمالية لكنّه لم يتحدث عن احتكار السلطة السياسية للمجال المرئي والسمعي والمقروء (أجهزة الاعلام) وللعمل السياسي لم يتحدث عن الفساد الاقتصادي والرشوة وغول البطالة وعن سعي السلطة منذ 1956 الى ضرب تيارات الهوية مما خرب مناعة المجتمع وخرب منظومة قيمه لم يتحدث عن عجز التيارات اليسارية عن قراءة الواقع ومتغيراته ولم يتحدث عن فشلها في فهم طبيعة المجتمع الذي تسعى الي الرقي به. وهنا أسأل نوري بوزيد: ألا يتحمل «يوسف سلطان» المثقف الماركسي (بطل فيلم صفائح من ذهب لنوري بوزيد / 1988) جزءا من المسؤولية في مأساة «بهتة»؟؟