لقد انطلقت السنة الدراسية هذه المرة في جو من التوتر لم تشهده سنوات سابقة مرده ممارسات مصدرها وزارتا التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي وجذورها تراكمات ترجع إلى السنة الدراسية الفارطة التي شهدت نسق مفاوضات لم يؤد إلى وفاق واضح المعالم. إنّ هذا التوتر في اعتقادنا، راجع إلى عدم تسليم الوزارتين المذكورتين بأنّ النقابات تظلّ طبقا للتشريعات الوطنية والدولية طرفا أساسيا في معالجة القضايا المتصلة بأعوان التربية والتعليم، وهو ما يستوجب تشريكها والتحاور الدائم معها تجنبا لتراكم المشاكل الذي لن يؤدّي إلاّ إلى توتّرات يعسر حلّها، فكلّ إقصاء للنقابات بتعلّة أنها ليست شريكة في التسيير أو كلّ قرار أحادي الجانب يعمّق استياء واستغراب أعوان التربية والتعليم وهياكل الاتحاد العام التونسي للشغل. وزارة التربية والتكوين أوّلا: لقد اعتادت النقابات وخاصة منذ بداية التسعينات على الاتصال الدائم مع الوزارة وعلى الحوار اليومي في إطار الاحترام المتبادل وعلى تدخلات وزراء التربية والتعليم كلّما اقتضى الأمر، فسارت الأمور في إطار مشاورات مستمرّة تؤدّي غالبا إلى وفاق تنتفي معه عوامل التوتر، وهو مسار يتناقض وما تشهده العلاقات اليوم من قطيعة بين الوزارة وهياكل المنظمة رغم بعض اللقاءات المتوتّرة ممّا أدّى إلى ردود فعل وصلت حدّ اعتصام نقابيي التعليم الثانوي والأساسي، ومنع أمين عام مساعد من دخول الوزارة لتسهيل الحوار بين النقابات والوزارة. إنّ المسؤولين النقابيين وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل نواب منتخبون ينتمون إلى منظمة وطنية عريقة تحمّلت مسؤولياتها في الظروف الصعبة التي مرّت بها البلاد واختارت طريق الحوار في الدفاع عن مصالح منظوريها، وفي التشاور معها ليس مضيعة للوقت ولا مسّا من صلوحيات الوزارة، وفي سدّ باب الحوار نتائج يعيها جيّدا من عايش الأزمات الاجتماعية التي عرفتها البلاد. ثانيا: لقد أصرّت الوزارة على تغيير مقاييس حركة النقل في التعليم الأساسي متعلّلة بحجج ضعيفة إن لم نقل واهية، منها أنّ النقابة العامة هي التي دعت إلى مراجعة الحركة! لنفرض جدلا أنّ الطلب صادر عن النقابة، هل إنّ عدم الاتفاق يؤدي إلى قرارات أحادية؟ أليس من المنطقي ترك الحركة ومقاييسها على ما هي عليه؟ ألم يكن من الأفضل تعميق التشاور في مقاييس الحركة خلال السنة الحالية كما اقترحت النقابة العامة خاصة وأنّ المربين لم يشتكوا سابقا من نتائجها؟ لماذا هذا الإصرار على تغييرها وبتلك السرعة وفي جوّ من التوتر استغلته الوزارة للتشهير بالنقابات وبالعمل النقابي وللبحث عن تهم سياسية لا علاقة لها بالواقع النقابي؟ فمطلب حركة النقل مطلب مهني واضح ومصدر التوتر هو من حاول تغيير مقاييس الحركة بعيدا عن منطق الوفاق، ورغم كلّ ذلك ومن اجل التجاوز، تفاعلت هياكل الاتحاد مع مقترحات الوزارة وأمضت النقابة العامة معها اتفاقا واضحا في معالمه جليا في بنوده ولكنه ظل على الورق، فالإدارات الجهوية ترفض الحديث مع النقابات، ومدرسون شاركوا في حركة المديرين لم يحصلوا على مراكز رغم أنّ أعدادهم تفوق بكثير أعداد من تحصلوا على المركز المطلوب، ومساعدون بيداغوجيون يعفون من مهامهم وآخرون يحرمون من التعاون الفني: إجراءات لا صلة لها بالعطاء البيداغوجي ولا بالكفاءة، بل أنها ممارسات تتنزل في إطار فهم جديد للعمل النقابي وعلاقة جديدة بالمسؤولين النقابيين انطلق مع وزارة التربية والتكوين منذ السنة الفارطة، أصبح معه كلّ من يمارس حقّه النقابي المنصوص عليه في الدستور وفي المواثيق الدولية وقوانين الشغل المحلية يحرم من حقوقه الواردة في القوانين الأساسية أو المقاييس المتعارف عليها ببلادنا. لصالح من هذا التوتر؟ أين الإشكال في مواصلة العمل بالحوار الدائم في فضّ بعض المسائل حتى الذاتية منها؟ لماذا هذا الانفراد بالانتدابات دون الرجوع إلى الاتفاقيات الممضاة؟ ومن المستفيد من تدهور مناخ الحوار الاجتماعي وتأزم العلاقات مع هياكل الاتحاد؟ إجراءات أخرى أيضا فاجأتنا بها وزارة التربية والتكوين وتتنزّل في نفس الإطار استهدفت الأساتذة المعاونين صنف أ حيث أقدمت على نقلة عدد كبير منهم ممن شاركوا في الإضرابات القطاعية ومارسوا حقهم الدستوري، ولقد تعلّلت الإدارة لتبرير هذا الإجراء بأنّه جاء في إطار البحث عن مصلحة هؤلاء لتمكينهم من تعميق خبراتهم ضمن تأطير بيداغوجي جديد لأنّ تقارير التفقد في شأنهم كانت سلبية، والغريب في هذه الحجة هي أنّ عددا منهم تمّ الاستغناء عنهم رغم تقاريرهم البيداغوجية الممتازة، ثمّ إن من يمكّن من فرصة أخرى من أجل انتشاله يستشار في نقلته، وكلّ نقلة دون استشارته تعتبر إجراءا لا إنسانيا قد يؤدي إلى تشريد عائلة بأسرها. وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس منظمة نقابية واحدة أسهمت في حركة التحرر الوطني وقدّمت مؤسسها شهيدا وطنيا، تحمّل مناضلوها مسؤولياتهم في محطات هامة، لها قانونها الأساسي المضمّن لدى مختلف الهياكل الدستورية المعنية، مستقلة في سيرها الداخلي، كافة تشكيلاتها منتخبة وقراراتها التأديبية تصدر عن لجان منتخبة أيضا، وهي الوحيدة المؤهّلة لتحديد من يفاوض باسمها ومن يمثّلها في علاقة بكافة السلط: معطيات متّفق في شأنها مدعومة بالقوانين المحلية وبالتشريعات الدولية وبالأعراف الجاري بها العمل. هياكل الاتحاد المسيرة اتخذت قرار بتوحيد نقابات التعليم العالي بعد انقضاء المدة النيابية للنقابات الصنفية، التأم مؤتمر شارك في نواب القطاع أفرز قيادة جامعة لمدرسي التعليم العالي والبحث العلمي، صدرت رسالة رسمية عن الأمين العام لتحديدها هيكلا مفاوضا، غير أنّ الوزارة ترفض قبول الهيكل المنتخب في مرحلة أولى ثمّ ترتئي قبول النقابة المنتخبة ومسؤولين سابقين على اعتبارهم هيكلا؟ ما هي حجج الوزارة؟ هل يستقيم هذا التعامل من حيث التشريعات الجاري بها العمل؟ إنّ التعامل مع غير المنتخبين داخل هياكل الاتحاد بقوانينه المسيّرة لم يحدث إلاّ في مراحل التنصيب أو في فترات بعث هياكل موازية من أجل ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل وتدجينه. تتعلّل الوزارة بأن المسألة لدى القضاء؟ ألم يكن من باب الأحرى التعامل مع الجامعة العامة المعترف بها من طرف الاتحاد العام التونسي للشغل في انتظار قرار القضاء؟ ثمّ أنّ هؤلاء حسب القانون انتحلوا صفة نقابية حرموا منها ديمقراطيا، فكيف تتعامل سلطة الإشراف مع منتحلي صفة؟ إنّ كان ذلك في إطار التعددية فللتعددية أحكامها، ولا يمكن أن نتحدّث عن تعدّدية التمثيل النقابي داخل منظمة واحدة. ممارسات أدّت إلى توتّرات عديدة، فيها اعتداء واضح على الحق النقابي، آن الأوان لمراجعتها لوضع الأمور في نصابها وتكريس احترام الحق النقابي تجسيما لحرية النشاط النقابي، مثلما ورد في الاتفاقيات 87 و 98 و 135 المصادق عليها من قبل بلادنا. إنّ آفاقا أفضل ممكنة تمرّ حتما عبر مراجعة جملة القرارات التي اتخذتها الوزارتان وعبر فتح قنوات حوار دائمة ومستمرة بين الوزارتين والمنظمة بهياكلها المعنية، والاتحاد متمسك بتطبيق التشريعات الجاري بها العمل وعلى استعداد لتحمّل مسؤولياته كاملة في هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتنا التنموية معوّلا على رصيده التاريخي وقدرات مناضليه، رافضا لكل أشكال التهميش والتوظيف، وداعيا إلى اعتبار هياكل الحوار ومنظمة العمل الدولية مراجع الحسم فيما يحدث من خلافات. إنّ قطع جسور الحوار وقنوات الاتصال ممارسات نرفضها مهما كانت مبرّراتها لأنّها تذكّرنا بفترات صعبة طوينا صفحتها نهائيا منذ التغير، ولأنها تتعارض مع التوجهات العامة للعلاقات الاجتماعية السائدة بالبلاد. فأية فائدة ترجى من ممارسات يعرف أصحابها أنها لا تؤدي سوى إلى مأزق؟ ولماذا يذهب بعضهم إلى مضايقة المنظمة الشغيلة واستفزازها في وقت تبدي فيه الإرادة السياسية حرصا فائقا على تثمين دور الشغالين والنقابيين ومنظمتهم الوطنية في إطار رؤية تضامنية تعتبر الحوار قاعدة أساسية لبناء مجتمع متوازن ومتماسك ومستقرّ. يبدو أن البعض لم يستوعب بعد فلسفة التحوّل الاجتماعي ببلادنا ولم يدرك جيّدا أن الحوار هو أحد أهم مفاتيح نجاح تونس في العشرين سنة المنقضية. لقد كنّا نعتقد أنّ مثل هذه الممارسات ذات الأفق الضيق لم يعد لها صدى سوى في بعض مؤسسات القطاع الخاص لكنّنا نستغرب حينما نكتشفها في قطاعات متقدّمة بمعارفها ومخزونها العلمي والثقافي.