حالفني الحظ في عدة أيام من الصباح الباكر أن أكون موجودا أمام عدة مدارس ابتدائية في أحياء راقية والتي تكون في أغلب الأحيان مدارس خاصة... وطبعا، فإن أغلبية التلاميذ الصغار يأتون الى مدارسهم رفقة الأب أو الأم في سيارات «آخر موديل» ولا أرى إلا الوجوه البيضاء النظيفة والثياب الجميلة جدا المحلاة بالزينة ولا أشم إلا الروائح الزكية والتلاميذ يضحكون ملء أشداقهم فرحين مسرورين كلهم أمل وطموح وراحة... عند الابواب الرئيسية لهذه المدارس تجد المديرين والمعلمات والمعلمين ينتظرون تلاميذهم لاصطحابهم الى أقسامهم وقد ودعهم الآباء والأمهات بكل حنان ورأفة على أمل اللقاء عند الغداء حيث تنتظرهم الطاولات المحملة بأحسن الأطباق الشهية في أحسن المنازل الفخمة وسط أرقى الأحياء. هذه المشاهد عندما أراها تؤرقني كثيرا بما أنها تحيلني مباشرة لما أشاهده دائما في الأحياء الشعبية التي سكنتها. فعند الصباح وحينما أهمّ بالذهاب الى الكلية وأنا أنتظر الحافلة التي قد لا تأتي أبدا لتحرمني من المشاركة في التظاهرات النقابية التي قد تكون مبرمجة في ذاك اليوم في الكلية، يعترضني أولئك المعذّبون في الارض، الملائكة الصغار، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في زمن رديء جدا وفي مكان يعاني من الاستغلال والردّة... تلاميذ الأحياء الفقيرة يخرجون من ديارهم البسيطة وهم محرومون من أهم غذاء في اليوم والذي ينصح به العلم لتأمين نمو طبيعي وهو فطور الصباح وسط غصّة الأم التي يذهب قلبها مع ابنها أو ابنتها الذي سيقضي (تقضي) يوما كاملا دون غذاء... المساكين، لم يتمكنوا أيضا من اقتناء ثياب جديدة، بل هم يعودون كل سنة الى الدراسة بنفس الثياب ونفس الميدعة المرقّعة، هذا دون أن نتحدث عن الأدوات المدرسية التي لم يتوفر نصفها بعد إن لم نقل كلها... طوال طريق المدرسة، سيقطع التلاميذ المسافة بصعوبة كبيرة وسيصلون الى مدارسهم في أكثر الأحيان بعد فوات الأوان ملطخة ثيابهم بالوحل والأمطار وقد تتمزق أحذيتهم بسبب الحفر الموجودة على طول الطريق ... طوال العام... وعند الأبواب الرئيسية للمدارس، ستجد المديرين غاضبين ساخطين صائحين في وجوه الصغار يدفعونهم الى الداخل بكل قسوة. أما في الأقسام، فالمعلمون لا يبدؤون حصتهم إلا بعد فوات نصف ساعة أو أكثر من الوقت لأنّهم وقتها مركزين في حساب «كريدياتهم» أو في التفكير العميق في الزيادات التي لم تصرف من قبل الوزارة الرافضة لأي تفاوض مع النقابة... هذه بعض المشاهد التي تتكرر كل يوم، طوال عشرات السنين وقد تتواصل أكثر إن لم تتوفر إرادة لإيقافها. إن أغلبية الأطفال التلاميذ هم من الفئات الشعبية الكادحة الذين لهم الحق في عيش حياة طبيعية سليمة وفي التمتع بما يتمتع به أطفال الأغنياء...