نساء احتملن هذه الحياة المضنية ولسان حالهن ينطق بالشكوى لكن في صمت. يعلنّ بدء عملهن مع أوّل قطرات العرق النّاضحة من أجسادهنّ والشمس تغطّ في سبات عميق فيما يشهر البرد والصقيع براثنه عند اول اطلالة لهنّ. تلتفت حولك أين اتجهن لتجدهنّ وهنة أجسامهنّ وبرز العظم منها كأنهنّ عود يابس يتكسّر على مهل ووجوههّن يتفجر ألما والحزن يملؤ عيونهنّ وأحلام أبنائهنّ الضائعة مازالت تنخر تفكيرهنّ. حرق وصهد الخلاص أصبح مستحيلا بالنسبة لهذه النسوة الا بالموت وحده حتّى أنّ الكثيرات منهنّ يلقين حتفهنّ من شدّة الحرق والصهد بفعل شضايا النار المتطايرة من فوهة الطابونة. يال الاصفرار البادي على وجنتيها وكلّ شيء فيها ينطق بالفاقة والبؤس، قدمت نحوي خجلة متعثرة وقالت: «لم أقدم على ما أقدمت عليه إلاّ لاسباب قاهرة، فزوجي عامل يوميّ يعمل طورا ويُحجم أطوارا، لي من الابناء خمسة، منهم من يدرس ومنهم من هو عاطل عن العمل. امام هذه الضغوط آليت على نفسي ان انتفع من صنعة يدي (خبز الطابونة) بدل ان انتظر حسنة قليلة مع كثير من الذلّ. صحيح أنّ وجهي شاحب مترب أسود من غبار الخشب المقطوع والمحروق المتناثر المتغلغل من شعري حتى أخمص قدمي الا أنني مع ذلك أشعر وكأنني عرق من الذهب في قلب الصخور». نفوس تتوجّع تلك السيدة وغيرها كثيرات يحتجن الى من يسمع نداء نفوسهن المتوجعة ويرى صدورهن المقروعة، يسعين الى التحرّر من عبودية البشر بالجهد والساعد. وهذه صورة ثانية لفتاة منعها ماء وجهها من أن تكسب قوت يومها من عرق غيرها فعند لفافات القمامة التي تعبث فيها الحيوانات السائبة وجدتها تشاركها العبث غير مكترثة بالامراض التي تنتظر أن تنال منها وطرا. أوف! رائحة عفن الاوساخ تزكم الانوف لكن مصائب الدهر لم يترك لها مجالا للتفكير أو العدول عن هذا العمل القسري، يجب عليها ان تعمل لسدّ الرمق بفضل ما تحصل عليه من اجر زهيد مقابل عدد الاكياس التي تملؤها علبا وقوارير بلاستيكية. أطلت النظر إليها فأسبلت جفنيها وهي تقول في صوت ليّن المكاسر: «إنّ ما ترينه من عمل مضني لا يدر عليّ الا النّزر القليل الذي لا يغني ولا يشبع من جوع، فلي أب أقعده المرض المزمن وأخوات عجزنا عن توفير اللوازم المدرسية لهنّ اما والدتي فإنها تعمل معينة منزلية لبعض الوقت». عرق أسود حقا إنّ في الاوضاع الإجتماعية لمظالم فادحة تحتاج القضاء عليها فقد أزرى الزمن بهذه النسوة. تعسا لهذا الفقر الذي اجبر هذه الاخرى على العمل وجعلها تتنفّس بصعوبة بالغة والعرق الاسود ينزف من جبهتها لشدّة ثقل ما تجرّه في هذه العربة التي ملئت حديدا حتى تجرّحت يديها وترك الصدأ أثره مثل السياط ينكأ الجروح القديمة! «أحسبني للفقر والمعاناة خلقت» هذا ما قالته لي محدثتي حين أفضت إليّ بهمها وأضافت تبتلع مرارة كادت تغصّ بها» إنّي أحاول أن أعيد إلى طبقتنا المهيضة الجناح بعض الرزق وأرغب في أن أستلّ من رحم الحياة حقا مشروعا ما دام التوزيع الاجتماعي غير عادل وإليك ما وصلت اليه حالتي لقد صدأت يدايا و»تفلقت» من جمع الحديد ورئتايا مريضة بسبب السموم المنبعثة منها». ويْح قلبي إنّك لتشعر بعطف كبير نحوّهن وهنّ يحتجن الى كلمة تشجيع وابتسامة حانية تخفّف عنهنّ بعض التعب ومنديلا يجفّف لهنّ بعض العرق حتّى وإن كان هذا المنديل من ورق. ولأنّ تاريخ حياتهن أبين إلاّ أن يكتبنه بأحرف من شعاع على الجدران، فلن تمحوه الايام ولا الليالي.