وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    تعاون مشترك مع بريطانيا    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    ياسمين دغفوس تحجز مقعدا في أولمبياد باريس 2024    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    جيش الاحتلال يرتكب 4 مجازر جديدة في غزة    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    عاجل/ حماس تكشف آخر مستجدات محادثات وقف اطلاق النار في غزة..    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نزعات الرصافي الفلسفية
بقلم: د.فريد العليبي
نشر في الشعب يوم 08 - 12 - 2007

تُثار في علاقة بالجدل الدائر حول كتاب الرصافي «الشخصية المحمدية او حل اللغز المقدس « جملة من الأسئلة لعلّ أبرزها لماذا طال التعتيم المتعمد هذا الجانب من عبقرية الشاعر الكبير ؟ لماذا ظلت مؤلفاته الفكرية المكتشفة الآن مجهولة كل هذا الوقت ؟ ما هو الموقع الفكري الذي عنه صدرت مواقفه الجريئة تلك ؟و عندما نقف علي النزعات الفلسفية المبثوثة في شعره و نثره ندرك سرّ ذلك التعتيم فقد نقد السائد الذي عايشه و حاول تفجير مكامن الأزمات فيه و تناول بالتحليل المحرمات التي أحاطها سدنتها بأسوار التجريم و التكفير والمنع و صيحات الويل و الثبور لمن يقترب منها و تحدثه النفس بهتك أسرارها .
وخلافا للمتفلسفين الذين يحلقون بعيدا عن هموم عصرهم و يدعون لأنفسهم رفعة زائفة انخرط الرصافي في مساءلة واقع زمانه بحثا عن نقطة ضوء في النفق الكبير الذي حشر فيه العرب حشرا علّ حالة الانسداد التي آل إليها تاريخهم تخلي السبيل أمام موجات مدّ طال انتظارها . و لا نبتغي في هذا المقال الإبانة عن مجموع فالمقام لا يسمح بذلك و إنما سنلامس فقط البعض منها مقصدنا في ذلك المساهمة في نفض بعض الغبار الذي تراكم علي عبقرية لم تقدر بعد قيمتها.
وحدة الوجود
اخذ الرصافي بوحدة الوجود فالله و الوجود متماهيان فهذا ذاك وذاك هذا و نفي الثنائية علي نحو بات حيث نقرأ في الشخصية المحمدية «إذا تصورت الفضاء بأثيره و لانهائيته و بامتداده الزمني و بما فيه من كائن جلي أو خفي تصورا كليا لا يعلق بالصور الجزئية فقد تصورت الحقيقة الكلية المطلقة اللانهائية التي هي ذات الله و علمت أن لا موجود غيرها « (1)
و هو يتطرف في الأخذ بوحدة الوجود حتى انه يبرز تباينه مع القائلين بالحلولية مثل الحلاج، فبرأيه لا يحل الله في أي شخص كان فهو عين الوجود و الحلولية تنقض ذلك إذ عندما يحل هذا في ذاك فان هذا يعني أنهما اثنان . و يبطل بذلك فكرة الحلول معتبرا إياها في تناقض تام مع فكرة وحدة الوجود في معناها الكلي و المطلق.
والاتحاد بالله ممكن بالنسبة له غير انه ليس أي اتحاد كان، انه اتحاد يندمج فيه الإنسان بالحقيقة الكلية فيصبحان ذاتا واحدة ، فعندما تندمج الذات بالوجود الكلي و تفني فيه و تتعالي عن وجودها الجزئي تتخذ مظهر الوجود الكلي و تصبح أفعالها و أقوالها ذات طبيعة إلهية . و هذا كله يتم من خلال النظر العقلي و قد بلغ أعلي درجاته فالرصافي يتباين هنا مع القائلين بالكشف والوحي والرؤيا و العرفان كما هو الحال لدي الغزالي و ابن عربي بينما يقترب من أهل العقل و البرهان مثل ابن باجة و ابن رشد. لأجل هذا يكفر الحلاج و هذا مستغرب منه لأنه لم يتحرر من ثنائية الإنسان و الله فوحدة الوجود لدي الحلاج محدودة أما لدي الرصافي فهي مطلقة يقول :»إن الحلاج صادق في قوله أنا الحق و لكن قوله هذا مع كونه صادقا يعتبر كفرا بذات الله لأنه قال « أنا « و أنا كناية عن الوجود الجزئي الذي لا كيان له في خارج الوجود الكلي « (2) بينما يوافق ابن عربي فيما قاله بخصوص شخصية المسيح فالنصارى لم يكفروا لتأليههم عيسي ابن مريم و إنما لتخصيصهم إياه فقط بذلك بينما يمكن لأي إنسان بالنظر العقلي بالنسبة الي الرصافي و بالكشف بالنسبة إلي ابن عربي بلوغ تلك المرتبة. ويلتقي الرصافي مع المتصوفة في الإقرار بعجز اللغة عن التعبير عن وحدة الوجود فإذا كان الغزالي يقول: كان ما كان مما لست اذكره فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر ، و الحلاج يقول :»أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة ، و الحقيقة لا تليق بالخليقة ، و علائق الخلائق لا تصل إلي الحقائق و الإدراك إلي علم الحقيقة صعب فكيف إلي حقيقة الحقيقة ؟ « (3) فان الرصافي هو القائل:
ففي النفس ما أعيا العبارة كشفهو قصر عن تبيانه النظم و النثر
و ما كل مشعور به في نفوسناقدير علي تبيانه المنطق الحر
وهو يري في محمد أكبر القائلين بوحدة الوجود فالآية التي تقول ( هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شئ عليم ) تؤكد ذلك فالوجود الكلي المطلق لا متناهي من حيث أبعاده المختلفة فأوله لا يدرك و آخره لا يلحق و هو في نفس الوقت مرئي و لامرئي ظاهر و باطن و بهذا فان الله لا يخيّم بعيدا في عليائه يرقب الوجود الماثل أمامه و إنما هو عين ذاك الوجود في امتداده اللامتناهي ، فهو يقيم فيه ، وأينما امتدت الأبصار هناك وجهه . وما يلاحظ هنا هو تلك القرابة الكبيرة بين ما يراه الرصافي علي هذا الصعيد و ما يرد في كتاب ابن عربي فصوص الحكم حيث نقرأ «إله المعتقدات تأخذه الحدود و هو الإله الذي وسعه قلب عبده و الإله المطلق لا يسعه شئ لأنه عين الأشياء و عين نفسه « (4) فوحدة الوجود تضعنا أمام نظرة كوسمولوجية متحررة من ثنائية الله و العالم و ثنائية الطبيعة و ماوراء الطبيعة. إن هذه الخلفية المعرفية هي التي مكنت محمدا من الاندماج مع الله و التماهي مع أقواله و أفعاله « و لذلك جاز له ( محمد ) أن يقول عن ذات الله ما يقول ، و أن يفعل عنه ما يفعل كما جاء في القران من قوله ( و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمي ) إذ جعل فعله فعل الله و قوله ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) إذ جعل بيعته بيعة الله و جعل يده يد الله فهو بهذا الاعتبار الفلسفي صادق فيما اخبر به عن الله « (5)
و مقابل البسملة و الحمدلة المعهودتين يبدأ الرصافي كتابه الشخصية المحمدية علي نحو تصبح فيه الحقيقة المطلقة هي الحريّة بان يذكر اسمها و يسبح بحمدها لذلك افتتح الكتاب علي النحو التالي « باسم الحقيقة المطلقة اللانهائية ، الحمد لها و السلام منها علينا « (6) فالله هو الحقيقة ذاتها مما يعني ان الرصافي يعلمن مفهوم الله فيمنحه دلالة عقلية تخرجه من حدود النظرة الدينية الضيقة أي انه يقوم بحل هذا اللغز المقدس بالابانة عن مضمونه الانطولوجي من حيث هو الوجود في تكثره و وحدته في و لاتناهيه و قد عبر عن ذلك شعرا بقوله:
ما للحقيقة من بدايةكلا و ليس لها نهاية
هي عند أرباب العقو ل أجلّ من حدّ و غاية
خفيت و لكن كم و كمظهرت لها في الكون آية
و إلي الحقيقة تنتهيطرق الضلالة و الهداية
إني أري سرّ الحقيقةكائنا في اللانهاية
و أري الوجود و إن تعدّ د واحدا عند الدراية
و علي غرار الفيلسوف اليوناني أبيقور الذي يقلب معادلة الكفر والإيمان إلي ضدها فيمسي الكافر مؤمنا و المؤمن كافرا بقوله الشهير : ليس الكافر من يحتقر آلهة الجمهور و إنما الكافر من يتبني تصور الجمهور عن الآلهة يبين الرصافي أن تدين شيوخ التضليل و فقهاء التكفير هو عين الكفر، كفر بالعقل والرويّة وركون إلي النقل والتقليد مما أدي إلى تخثر الذهنية العربية السائدة التي راحت تعيد إنتاج مسلماتها القدسية علي مدار السنين دون قدرة علي القيام بنقد عقلاني جذري للموروث الذي تراكمت طبقاته بعضها فوق بعض دون ترتيب أو تمحيص عدا محاولات بعض الأفذاذ مثل الرازي الطبيب وابن رشد و المعري وابن المقفع ، تلك المحاولات التي تم التضييق عليها ووأدها في الحين. فما يطالبنا الرصافي به هو هتك الحجب القدسية و التحرر من قيدها ولن يتم ذلك إلا بحل ألغازها أولا وإذا كان هناك ما هو جميل في الحقيقة فهو عراؤها يقول في ذلك :
رويدك إن الكفر ما أنت قائلو إن صريح العرف ما خلته نكرا
هل الكفر إلا أن تري الحق ظاهرافتضرب للأنظار من دونه سترا
و أن تبصر الأشياء بيضا نواصعافتظهرها للناس قانية حمرا
إذا كان في عري الجسوم قباحةفأحسن شئ في الحقيقة أن تعرّي
و يري الرصافي أن الناس عاشوا لفترة طويلة بين ربّ و مربوب وسيد و مسود ويقف علي الوسائل التي تستعمل عادة في مثل هذه الحالات وهي القمع المادي والقمع الايديولوجي قائلا:» أما القوة التي كان الأرباب يستعبدون بها المربوبين فهي إما مادية كالقوة البدنية و ما يتبعها من سلاح و أعوان ، و إما أدبية كالدين و ما يتبعه من رؤساء و كهان ... و خلاصة القول أن هاتين القوتين كانتا منذ عُرف التاريخ إلي يومنا هذا هما الواسطة لاستعباد البشر بعضهم بعضا « (7) و يري أن محمدا جاء لإصلاح هذا الوضع فهو بإعلانه «لا اله إلا الله « جعل الناس سواسية في العبودية لإله واحد أوحد . والمنفعة الحاصلة من ذلك لا يحتاجها الله وإنما البشر إذ يزول بينهم استعباد بعضهم لبعض ويصبحون كلهم مستعبدين لإله واحد و هذا الإله لا يضره كما يقول الرصافي أن يعبد الناس غيره كما لا يجني منفعة من عبادة الناس له ف»الله غني عن العالمين». صحيح أن الأمر يتعلق بعبودية و لكنها هنا عبودية شريفة فهى «لما كانت لخالق غير مخلوق و لرازق غير مرزوق، عبودية شريفة لا يترتب عليها ما يترتب علي العبودية العامة من المضار التي تنتهي بشقاء العابد و نعيم المعبود .» (8) وغني عن البيان انه يتمثل هنا الله باعتباره الوجود ذاته في كليته و لا نهائيته لأجل ذلك يحيل علي فلاسفة العرب الذين كان لهم باع في التفكّر في هذه المسالة الميتافزيقية مثل الفارابي و ابن سينا و ابن رشد قائلا:» ومهما كانت العبودية الخاصة شريفة فان هناك مرتبة أعلي منها و هي مرتبة الفناء في الحقيقة الكلية المطلقة اللانهائية التي هي ذات الله و عنوان هذه المرتبة لا موجود إلا الله و هي المعبٌر عنها في كلام فلاسفة الإسلام بوحدة الوجود « (9) كما نعثر علي هذا التمثل لدي متصوفة العرب حيث يغدو الإنسان مبتدأ الوجود و خبره و مفتاحه الذي لا مفتاح سواه يقول ابن عربي في إشارة إلي الله:
فلولاه و لولانا لما كان الذي كانا
فصار الأمر مقسومابإياه و إيانا
كما يقول الحلاج :
يا جملة الكل لست غيريفما اعتذاري إذن إليّ
زيف التاريخ
يري الرصافي أن التاريخ غلب عليه التزوير ملاحظا انه وثق فيه في البدء غير انه ما لبث أن اعتبره موطن الزيف و الكذب قائلا :» كنت احسب للتاريخ حسابا و أجعل له منزلة يستحق بها أن أكتب ما أكتب ... حتى أصبحت لا أقيم للتاريخ و زنا و لا احسب له حسابا لأني رايته بيت الكذب و مناخ الضلال»(10) وقد اخذ علي عاتقه الدفاع عن الحقيقة و ترك الروايات التاريخية المزيفة جانبا فالحقيقة ترتقي لديه إلي مستوي من الرفعة جعله يقر وحدانيتها و يرفض وجود أي شريك لها في حسنها و بهائها كما في دقتها و صرامتها و يوافقه هادي العلوي علي ذلك إذ «لم يقع في علم من العلوم من العدوان و العسف و سوء النية ما وقع في علم التاريخ « (11) لأجل ذلك يستوجب هذا العلم التدقيق والتحقيق الصارمين وما ابتغاه الرصافي و علوي ليس ابطال هذا العلم و انما تذليل العقبات الابستمولوجية التي تقف في طريقه وقد قال كارل ماركس عن هذا العلم في معناه العام الذي يشمل تاريخ الطبيعة و تاريخ الانسان انه العلم الوحيد الذي يعرفه و يعترف به (12) كما اعتبر ابن خلدون ان ما يحتاجه هو النظر و التحقيق ... وكان الرصافي مدركا للتضحيات الجسام التي يتوجب بذلها في سبيل إشهار الحقيقة أمام الملإ فالجمهور قد لا يري في هذا غير كفر و ارتداد لذلك كتب يقول :» و لئن أرضيت الحقيقة بما اكتبه لها لقد أسخطت الناس علي ، و لكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها ، كما لا ينفعهم رضاها اذا كانت علي أبصارهم غشاوة من سخطهم علي و علي قلوبهم أكنة من بغضهم إياي « (13) و هو في الدفاع عنها لا يخشي لومة لائم فمهما واجه من سخط و غضب فان المهمة تستحق أن تنجز ، ثم أليس جمهور المضطهدين المكبل بقيود المقدس هو الرابح أولا و الرابح أخيرا من عمل كهذا ؟ أليس هو من يدفع من عرقه و دمه و لحمه ثمن غياب الحقيقة ؟ ألا تشير الوقائع العنيدة انه هو الضحية الفعلية لسياط الجهل و الخرافة و العادات السقيمة التي يلهب الجلادون بها ظهره؟
وحجة الرصافي في رفض الروايات التاريخية حول الشخصية المحمدية هي أن العرب في الجزيرة كانوا أميين في معظمهم لذلك اعتمدوا الروايات الشفوية و لم يبدأ التدوين عندهم إلا في أوائل القرن الثاني للهجرة أي في العهد العباسي لذلك فان معرفتنا بشخصية محمد تعود لمصادر كتبت بعد ما ينيف عن المائة عام من وفاته فأول كتاب في السيرة يعود الي زمن أبي جعفر المنصور أي إلي ما وضعه محمد ابن إسحاق الذي كتب المغازي و الأخبار في وقت كان فيه الخبط و الخلط السمة الغالبة علي الروايات المتداولة فسادت الأهواء و لعبت المصالح الفئوية دورها ، و اللافت انه لا يستثني القران من خضوعه إلي التعديل و التغيير فهو و إن كان يستثنيه مما لحق الروايات من حيث تدوينها المتأخر باعتبار أن جمعه قد تم في عهد أبي بكر و كتب في المصاحف زمن عثمان فانه لم يخل هو أيضا من التغيير و التبديل خاصة عبر تعدد القراءات (14) غير انه يعتبره مع ذلك أفضل مصدر يمكن أن ينبئنا بحقيقة الشخصية المحمدية و يساعد بالتالي علي حل اللغز المقدس أما الأحاديث المنسوبة إلي محمد فقد خضعت لأهواء الفرق و مصالحها المتباينة ، يقول عن الرواية «إن الخبر إذا تداولته الرواة و طال سيره بينهم من فم إلى أذن و طال عليه الأمد في سيره و انتقاله بينهم كان عرضة للتغيير و التبديل بسبب ما يكون في الرواة من سوء فهم و من ضعف حفظ و من ضيق وعي و بسبب ما يعتريهم من ذهول و نسيان « (15) و يقص حادثة طريفة حصلت له تؤكد ذلك فقد كان مدرسا لآداب اللغة العربية في العشرينات في مدينة القدس وأثناء اجتماع التلاميذ بأساتذتهم طلب مدير المدرسة من أستاذ الجغرافيا أن يهمس في أذن التلميذ الجالس بجانبه «بكرة درسنا في الجغرافيا كذا و كذا « على أن ينقلها إلي التلميذ الجالس بجانبه و هذا ينقلها إلى تلميذ آخر حتى يصل الخبر إلي الجميع و لما انتهت هذه العملية سأل المدير آخر تلميذ وصله الخبر ماذا قيل لك فأجاب :»بكرة ما في درس في الجغرافيا « وهذه الحادثة تدل بحسب الرصافي علي ما يلحق الرواية من تحريف عندما تنتقل بين رواة عديدين.
و يعرض من ثمة إلى وجوه الوهن التي تسم الروايات التاريخية و يقدم أمثلة على ذلك من بينها الحديث المتعلق بزواج محمد من أم سلمة فهو مثال ساطع يكشف عن الأخطاء التي يقع فيها الرواة فلما انقضت عدة أم سلمة من زوجها السابق خطبها محمد و كان لها ابن يدعي عمرا وله ثلاث سنين و لم يحضر مراسم الخطبة من أوليائها غير ابن عمها عمر ابن الخطاب فقالت له : قم يا عمر فزوج رسول الله ، فنقل الرواة ذلك علي نحو خاطئ معتبرين أن من زوجها هو ابنها الذي يحمل نفس الاسم و تغافلوا انه يتعذر عليه ذلك بل إن بعضهم نسب الأمر إلى محمد الذي قال «قم يا غلام فزوج أمك «. و يعمل الرصافي عقله في قراءة الأحاديث منتصرا للعقل فيعرض لما يتناقض منها مع المعقول قائلا :» ومما قبلوه و هو مخالف للمعقول حديث الذباب و هو و حاشا لمحمد أن يقول :»إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في احد جناحيه داء و في الآخر دواء فيا سبحان الله إن الذباب الذي يتهافت علي الجيف و القيوح و يقع علي النجاسات و القاذورات و يغرز فيها خرطومه و ترتطم فيها أرجله ثم يطير ناقلا عنها أنواع الجراثيم المقززة لا يعد نجسا مضرا من هذه الجهة إن هذا لعمر الله كلام لا يقوله عاقل فضلا عن نبي «(16) و يناقش الكثير من الأحاديث مبينا أنها موضوعة بينما ينظر لأحاديث أخري نظرة قبول لتوافقها مع العقل و نبل مقاصدها و هو يقف في آخر المطاف علي الجانب السياسي فالفرقة التي تمزق الأمة العربية ناشئة عن تناقل الروايات الكاذبة و التأويلات الباطلة مما ولد التعصب و الطائفية و يكمن الحل في تنقية الأحاديث مما هو موضوع و النظر إليها بمقياس العقل و تأويل القران برهانيا و النظر إلى الشخصية المحمدية نظرة عقلية لا نظرة أسطورية فمحمد برأيه من أعظم عظما بني البشر فقد قاد ثورة و بني دولة و غير عادات قومه و كان علي قدر عال من الذكاء و المسؤولية التاريخية و من المعيب اختزال شخصيته في مجرد مردد و ناقل لأقوال غيره . و يلخص الرصافي هدفه من وضع كتابه علي النحو التالي «إننا نريد أن نعرف محمدا كما هو ، و قد تقدم أن القران اصح ما بلغنا عنه فيجب أن نعتمد عليه في معرفة محمد أكثر من غيره أما كتب الحديث و السير فلا يجوز الاعتماد عليها إلا بعد أن نضعها في غربال منسوج من المعقول ومن القران فما سقط منها تركناه و ما بقي في الغربال أخذناه»(17) و هناك وشائج صلة قوية بين فكرة الرصافي هذه التي تتصل بمنهج قراءة المقدس و ما كان سبينوزا قد أكد عليه في الشأن ذاته عندما قال « لما كان ظهور الأنبياء في أيامنا هذه قد انقطع علي ما اعلم فلنكتف بفحص الكتب المقدسة التي تركها الأنبياء السابقون دون أن نتقول شيئا... أو ننسب إلي الأنبياء شيئا لم يقولوه هم أنفسهم بوضوح تام « (18).
تاملات في الموت و الحياة
للرصافي تأملات فلسفية في قضايا وجودية مثل الموت و الحياة و ذكر مصطفي علي انه كتب نصا بعنوان الموت و الحياة في كتابه «خواطر و نوادر « من ضمن ما جاء فيه قوله بخصوصهما :»هما وليدان شقيقان لأب واحد و أم واحدة أما الحياة فنعمة من الله سابغة و هي أم العجائب كلها ... و أما الموت فهو رحمة من الله واسعة من شانه أن يبتذل المصون و لا تنفع فيه الرقي و لا الرقون ومن غريب أمره انه يستمر و هو غير مذوق و يهاب و هو غير مرموق و كل ما فيه إخماد آلام « (19) و لا يتسع المجال هنا للاستفاضة في الإحاطة بتفلسف الرصافي بهذا الخصوص و نكتفي بالإشارة إلي النزعة الابيقورية المبثوثة في هذا الكلام فالموت يفهم هنا من خلال ديالكتيك العلاقة بين اللذة و الألم ، إننا لا نلتقي الموت و لن يلتقينا و عندما يكون نكف نحن عن الوجود لذلك لا نتذوقه و لا نتحسسه و عندما نخافه و نهابه فإننا نخاف مما لا ينبغي الخوف منه.و يلاحظ الرصافي ان الأنبياء أنفسهم لا يحبون الموت و يشكك فيما تناقلته الروايات من أن أصحاب النبي العشرة المبشرين بالجنة كانوا يتسابقون نحو الموت و يحنون إليه ، إذ قد يجوز لمن تلف إلى داره فنجد فيها الحرية بأوسع مظاهرها و أوضح معانيها حتي كنا لا نتأخر عن أن ندخلها و إن لم يكن فيها لأننا ضمنا إذنه بالدخول فلا نفتقر إلي استئذان» (20) و كانت تقدم في الدار الأطعمة و الشراب التي يجود بها الأصحاب و من كل حسب قدرته و لكل حسب حاجته كما كان بعضهم يغني ويعزف ومثل ابيقور كان الرصافي كما يذكر صديقه زاهدا في الكماليات إذ تكفي تلبية الحاجات الطبيعية و الضرورية وهو القائل:
حاجة المرء أكلة و كساءو سوي ذلك بسطة في الكمال
هوية الرصافي الفكرية
كان الرصافي مكتويا بنار أسئلة حارقة لا تزال تؤرق ذهن المفكرين العرب الذين هم من طرازه فالمواضيع التي طرقها تتميز بانصهارها عميقا في واقع عربي مأزوم عانت فيه ولا تزال قوى التقدم من عوائق شتي لعل أشدها استعصاء هيمنة الذهنية الارتكاسية الغيبية على المضطهدين الذي يساقون إلي حتفهم مثلما تبرزه الأحداث الآن بعصا من يسمون زيفا بعلماء الدين ووهم أولئك الذين قال فيهم الرصافي:
و أقبح جهل في بني الشرق أنهميسمون أهل الجهل بالعلماء
لقد واجه الأسئلة التي طرحها الواقع المضطرب في عصره من موقع فكري منحاز علنا للمسحوقين اقتصاديا واجتماعيا و ثقافيا و سياسيا و لم يجد غضاضة في إعلان انتسابه إلي الاشتراكية بل الشيوعية حتي ، و هو القائل في شعره:
«كل ما في البلاد من أموال ليس إلا نتيجة الأعمال
إن يطيب في حياتنا الاجتماعية عيش فالفضل للعمال
إن الحق مذهب الاشتراكية فيما يختص في الأموال
قولوا معي مقالا رفيع الصوت فلتحيا زمرة العمال»
و في احدي خطبه في البرلمان العراقي بتاريخ 7 جوان 1937 قال الرصافي « إني شيوعي لكن شيوعيتي إسلامية لأنها وردت في القران في قوله تعالي ( و في أموالكم حق للسائل و المحروم) كما قال الرسول ( تؤخذ من أغنيائكم فترد علي فقرائكم ) أليست هذه الشيوعية و من يستطيع أن يقاوم هذا المبدأ إلا عن جهل « و لا شك أن هذا الربط بين الإسلام و الشيوعية محركه محاولة تأصيل فكرة العدالة الاجتماعية في بيئة يتحكم بها المستغلون في رقاب المضطهدين باسم المقدس الديني فيحاول الرصافي إعطاء قراءة أخري للإسلام تجعله في تناقض مع تلك القوي و هو يسير علي هذا الصعيد علي خطي عدد من المفكرين و الفلاسفة العرب الذين حاولوا تجريد السلطان الديني و السياسي من لحاف المقدس لجعل اضطهاده باديا لعيون المستغلين و هو ما يعد شرطا أساسيا لتحررهم .
وفي الحقيقة فانه لم يكن في ذلك وحيد عصره فقد وقف علي هذا الصعيد علي نفس الأرض التي وقف عليها كثيرون غيره في الثلث الأول من القرن العشرين مثل السياب والزهاوي و الجواهري الذين اخذوا علي عاتقهم مقاومة الاضطهاد و الجهل حتى أن الجواهري اختار لإحدى قصائده العنوان التالي : الرجعيون و قال فيها:
«ستبقي طويلا هذه الأزمات إذا لم تقصر عمرها الصدمات
تحكم باسم الدين كل مذمم و مرتكب حلت به الشبهات
و ما الدين إلا آلة يشهرونها إلي غرض يقضونه و أداة «
أما الزهاوي فلم يكتف بنقد الرجعية الدينية و إنما أعلن صراحة عن ريبيته بل و إلحاده في مجال العقيدة فهو القائل:
«ثم آمنت ثم ألحدت حتى قيل هذا مذبذب ممرور
ثم أني في الوقت هذا لخوفي لست ادري ماذا اعتقادي الأخير»
لقد كان العصر يموج بثورات كبري الثورة البلشفية في روسيا والثورة الديمقراطية الجديدة في الصين و ثورة العشرين في العراق الخ ... فاخذ الشعراء و الكتاب مواقف جذرية غير مسبوقة و أعلنوا باختصار الحرب علي الرجعية الدينية و السياسية و الاجتماعية و أصدعوا بمواقفهم جهارا و خاضوا غمار الصراع بحماسة منقطعة النظير و في هذا المناخ نشأت أولي الحلقات الشيوعية في العراق فأخذت علي عاتقها مواجهة الظلام الفكري الجاثم علي الأذهان بتأليف وترجمة ما تيسر من الكتب التي تساعد علي ذلك واللافت أن هذه الحلقة كانت تعقد اجتماعاتها بأحد المساجد.(21)
لقد تشكلت آراء الرصافي في خضم هذا المناخ فجاءت جريئة متمردة لأجل ذلك تألبت عليه الرجعية الدينية بشكل خاص فتم تكفيره و التشهير به و أفتي محمد حسين كاشف الغطاء احد رجال الدين بنفيه الي بلاد الكفار و كان رده علي الحملات التي استهدفته قويا فهو القائل
لا درّ درّ رجال الدين أنهمقد اظهروا فيه منهم غير ما كتموا
و استعملوه كما تهوي مآربهمكأنه ليس إلا آلة لهم
إذا سلكت إلي الإصلاح مسلكهفأنت برأيهم بالكفر متهم
وان تقل لهم قولا لتقنعهمشدوا عليك و ردوا قبل ما فهموا
خلائق كظلام الليل من يرهايقل : بأمثال هذي تمسخ الأمم
ربما لهذا السبب امتدح سعدي يوسف الرصافي معتبرا إياه داعية للبلشفية فكتب يقول مخاطبا الرصافي :
«أنت تؤلف عن شخصية من أسميناه نبيا
أنت تبلشف
لنا أن تباهي بك في الساحة يا معروف
لنا أن نستقبلك اليوم رفيقا»
الحاجة الى الرصافي
كان الرصافي مدركا لردود الفعل التي ستثيرها مؤلفاته و كان يمني النفس بنشر أشدها جرأة في أوربا و اختار عدم نشر الشخصية المحمدية قبل أن تمر عليها خمسون سنة غير أن كل هذا لا يغفر عدم نشر تلك المؤلفات خاصة أنها كانت محفوظة في المجمع العلمي العراقي ولا شك أن السائد الديني و السياسي هو الذي حال دون ذلك و من ثمة فان مبادرة صاحب دار الجمل بنشر الشخصية المحمدية تذكر فتشكر .
لقد عالج الرصافي في شعره و نثره قضايا خطيرة و إذا كان شعره قد نشر مبكرا رغم ذلك فان نثره ظل مجهولا غير أننا عندما نقرا قصائده نعثر علي نفس النزعة العقلانية النقدية تجاه المحرمات الدينية و السياسية فقد كان صريحا في نقد المقدس الديني الإسلامي كما لم يدخر جهدا في نقد السلطة السياسية العميلة للمحتلين الانكليز فهو القائل في نقد حكومة زمانه
علم و دستور و مجلس امةكل عن المعني الصحيح محرف
أسماء ليس لنا سوي ألفاظهاإما معانيها فليست تعرف
فكيف نفسر نشر شعره بينما تم تغييب كتاباته الفكرية؟ هل يفسر ذلك بانتشار تلك الأشعار بين الناس مما أضحي معه منعها من التداول دون معني ؟ هل لان الشعر مطبوع بالرمزية بينما الكتابة النظرية صريحة ؟ يبدو أن عبقرية الرصافي الشعرية كانت من القوة بالقدر الذي جعل قصائده تدرس في العديد من الأقطار العربية و لو بشكل انتقائي غير أن التعتيم المقصود طال مؤلفاته النظرية التي اشتملت آراء غاية في الخطورة بالنسبة للمضطهدين الواقعين بين أنياب المؤسستين الدينية و السياسية السائدتين. صحيح أن ما كتبه يصدم الوعي الساذج و يرجه رجة قد يكون في أمسّ الحاجة إليها فإما التذرع بالتكفير بدعوي الدفاع عن ثوابت الأمة و إما إعادة النظر في المقدس و تدبّر العلاقة معه بعين العقل لفك ألغازه و كشف الاغتراب الديني برده إلي وضع اجتماعي طغي عليه ركود قاتل فاضحي حبيس ماض يرفض إخلاء المجال لجديد يعاني عسر الولادة. ومن نافلة القول أن الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية التي تبسط ظلها الثقيل علي البشرية قاطبة تطحن المضطهدين بغض النظر عن ألوانهم و أجناسهم و أديانهم و ليست الأساطير المسوقة بألوان زاهية غير أسلحة خبيثة يمسك بخيوطها سلاطين المال الذين يحركون من وراء الستار الأصوليات المتصارعة و يدفعون أمراء الحروب لاقتراف المذابح التي يذهب ضحيتها المضطهدون قبل سواهم . و هذا كله يطرح علي جدول أعمال الفكر النقدي مراجعة المقدس بفهمه علي ضوء الواقع التاريخي الذي أنتجه فالمهمة تقتضي الربط بين نقد السماء و نقد الأرض ، نقد الوعي الزائف و نقد الواقع البائس الذي تجد فيه الأوهام المقدسة حاضنتها و السبب الحقيقي لديمومتها .
ونشير في الأخير إلى أن سلاسة أسلوب الرصافي تساعد القارئ علي تمثل الأفكار التي تنساب بيسر و قياسا إلي تفلسف الفلاسفة حيث المفاهيم الصارمة فان ما كتبه يمكن أن يحيط بأطروحاته جمهور أوسع فالشعر و الفلسفة يتحدان في معركة واحدة الهدف منها تحرير جموع المضطهدين من قيود الاستغلال و هيمنة الخرافة و الأساطير انه فكر ينضح بعقلانية مغدورة آن أوان فك الطوق عنها و إبرازها للعموم لتفعل مفاعيلها في خضم الظلام الجاثم علي الصدور .

الهوامش
/1 الرصافي، الشخصية المحمدية ، دار الجمل ، كولونيا / المانيا 2002 ، ص19
/2 المصدر نفسه ، الصفحة نفسها
/3 الحلاج ، الطواسين و بستان المعرفة ، دار الينابيع ، دمشق 1994 ، ص 47
/4 ابن عربي ، فصوص الحكم ، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان ، ص226
/5 الرصافي ،الشخصية المحمدية ، ص 20
/6 المصدر نفسه ، ص15
/7 المصدر نفسه ، ص ص18/17
/8 المصدر نفسه ، ص18
/9 المصدر نفسه ، ص 18/19
/10 المصدر نفسه ، ص15
/11هادي العلوي مدارات صوفية ، تراث الثورة المشاعية في الشرق ،مركز الأبحاث و الدراسات الاشتراكية في العالم العربي ، الطبعة الأولي ، نيقوسيا 1997 ، ص 131
/12ماركس/ أنجلس ، الايدولوجيا الألمانية ،ترجمة فؤاد أيوب ،دار دمشق ،دمشق 1976،ص22
/13 الرصافي ، الشخصية المحمدية ، ص15
/14 انظر للغرض :ابن خالويه ، القراءات الشاذة، دار الكندي ، اربد/ الأردن
/15الرصافي، الشخصية المحمدية ، ص55
/16 المصدر نفسه ص67/68
/17المصدر نفسه ، ص ص 74/75
/18 سبينوزا ، رسالة في اللاهوت و السياسة ، نقل حسن حنفي ، دار الطليعة ، الطبعة الثالثة ، بيروت 1994 ، ص126/125
/19 مصطفي علي ، الرصافي صلتي به، مكتبة المثني ، بغداد ، ص 64
/20 المصدر نفسه ، ص 65
/21زهير الجزائري ، السيد و الرحال و صورة جيل ، مقال علي الانترنت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.