لقد قدّم لنا التقرير حول «المنظومة الوطنية للموارد البشرية: جهد متواصل لدعم التشغيلية» تقييما كمّيا ونوعيا ضافيا لأبرز الاصلاحات الهيكلية والبيداغوجية التي اعتمدت خلال العشرية الأخيرة والتي كان من أهدافها كما جاء في التقرير: «اعداد موارد بشرية رفيعة المؤهّلات والأداء قادرة على المساهمة في ارساء مجتمع المعرفة والاندماج في الخارطة العالمية لصناعة الذكاء والاقتصاد اللاّمادي» ونحن في الاتحاد العام التونسي للشغل لا يسعنا إلاّ أن نثمّن هذا التوجّه الطموح والمشروع الرّامي إلى توفير التربية الجيّدة للجميع حتّى نكسب بلادنا مقوّمات القوّة والمناعة والندّية. إشارات نقدية ولم يخل التقرير من اشارات نقدية جريئة لبعض الاشكاليات المطروحة اليوم في مجال التربية والتّكوين المهني والتعليم العالي من ذلك: المردود الكمّي والنّوعي للنّظام التربوي والذي لم يرتق بما فيه الكفاية إلى المستوى الذي يترجم مجهود المجموعة الوطنية لفائدة المؤسّسة التربوية والتّكوينية. النّقص المسجّل في مجال المكتسبات التحليلية والتأليفية والثقافية للتلاميذ في سن ما قبل الخامسة عشرة وفي مجال التأطير البيداغوجي لمدرّسي التكوين الأساسي مقارنة مع المعايير الدولية، وكذلك في مستوى تأهيل إطار الاشراف الإداري بما يستجيب لمتطلّبات التسيير البداغوجي والإداري والمالي. غياب آليات هيكلية ومؤسّساتية لتأمين التكامل بين مكوّنات منظومة اعداد الموارد البشرية. البطء المسجّل في نسق تحسين صورة التكوين المهني لدى المجتمع التونسي بسبب عدم القدرة على تجسيم شعار: «التكوين المهني مسلك للنّجاح» واستمرار أشكال التكوين غير المقيّس بنسب هامّة. ضعف التفاعل بين قطاع التكوين والمؤسّسات الاقتصادية. وضعف مردود القطاع الخاص بالرّغم من الحوافز التي توفّرها الدولة له من مال المجموعة الوطنية. رهانات حقيقية إنّ جملة هذه الاشكاليات المسجّلة والتي سبق للاتحاد أن أشار إليها في العديد من المناسبات واللّقاءات الحوارية والتفاوضية تمثّل جميعها رهانات حقيقية بالنّسبة للمرحلة القادمة. ولا شكّ أنّ أخذها بعين الاعتبار والإجماع حولها كتحديات مشتركة سوف يساعد على خلق أرضية مناسبة للعمل المشترك من أجل معالجتها في إطار تمشّ ينزّل مهمّة اصلاح المنظومة التربوية والتكوينية والنّهوض بالموارد البشرية ضمن تصوّر استراتيجي شامل، غايته تحديث المجتمع في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسّلوكية والثقافية والفكرية. وتجدر الملاحظة هنا إلى أنّ المخطط التاسع والمخطط العاشر سبق أن تعرّضا إلى عدد من هذه الاشكاليات مثل اشكالية التمفصل بين منظومتي التربية والتكوين المهني واشكالية التمفصل بين منظومة التربية والتكوين من ناحية ونظام الانتاج من ناحية أخرى، وكنّا نحبّذ اشارة التقرير الذي بين أيدينا إلى المعوقات التي حالت دون تجاوز تلك الاشكاليات على امتداد فترتي المخطط التاسع والمخطط العاشر. إنّ عدم تشخيص هذه المعوقات والكشف عنها ليكون الجميع على بيّنة منها سوف يحول دون كل مسعى نحو الارتقاء بأداء منظومة اعداد الموارد البشرية لتكون في مستوى الجهود والتضحيات المبذولة وفي مستوى الارادة المعلنة لإقامة مجتمع المعرفة كما سوف يُفقد الأطراف المتدخّلة القدرة على الاستباق والمبادرة لاتّخاذ الاجراءات الضرورية للتّدارك والتّجاوز. لقد أصبح دور الشركاء الاجتماعيين في تطوير قطاعي التربية والتكوين المهني والنّهوض بالموارد البشرية أمرا مسلّما به في جميع أنحاء العالم. وهذا ما تؤكّده الوثيقة المسلّمة إلينا وهذا ما يؤكّده أيضا برنامج الاصلاح المعلن الذي أقرّ بضرورة «تركيز شراكة متعدّدة المستويات مع الأطراف الاجتماعيين والهياكل المهنية والمؤسّسات الاقتصادية كمبدأ قاعدي في تحديث منظومتي التربية والتكوين المهني وتعصير برامجها وتحسين جودتها ممّا يعزّز ملاءمتها مع تطوّر أنماط الانتاج والمهن الجديدة»، على أن تشمل هذه الشراكة مختلف مراحل انجاز المشاريع من تشخيص الحاجيات واستشراف تطوّرها واعداد المناهج وهندسة المشاريع إلى متابعة التنفيذ وتقييم النتائج. أحسن دليل إنّنا في الاتحاد العام التونسي للشغل نبارك هذا التوجّه الاستراتيجي فهو الكفيل وحده بتعبئة جميع مكوّنات المجتمع حول أهداف الاصلاح الكمّي والنّوعي لمنظومة اعداد الموارد البشرية. كما أنّنا في الاتحاد العام التونسي للشغل نسجّل ارتياحنا لاستجابة الحكومة إلى مطلب كنّا دعونا إليه في المناسبات السابقة وهو الاقرار بأنّ «بلوغ مستوى المشاركة الفعلية في تنفيذ البرامج المتعلّقة بها يتطلّب مضاعفة الجهد ازاء ما تفرضه المرحلة الحالية والموالية من تحديات كمّية ونوعيّة متّصلة أساسا بتطوير قدرة المنظمات المهنية على الاضطلاع بدور أهم في مختلف مراحل هندسة التكوين» فما طالبنا ونطالب به هو تطوير قدراتنا النقابية وتملّك المفاهيم العلمية والبيداغوجية والتّقنية بما يسمح لنا بأداء دور الشريك الاجتماعي الواعي والمسؤول الذي يليق بمركزنا الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي داخل المجتمع التونسي. ولا شكّ أنّ ما أقدمنا عليه منذ شهر أوت من سنة 2004 بإمضاء اتّفاقية شراكة وتعاون مع وزارة التربية والتكوين يمثّل أحسن دليل على ارادتنا القويّة والصادقة للاضطلاع بدورنا من أجل تحقيق أهداف اصلاح منظومة اعداد الموارد البشرية بأبعادها الكمّية والنّوعية. كما أنّ مساهمتنا النشيطة والمنتظمة في اشغال اللجنة الفنية التي احدثتها وزارة التربية والتكوين بهدف اعداد الإطار الوطني للمهارات ووجودنا المنتظم في فريق العمل المكلّف بمتابعة مشروع الاقرار بمكتسبات الخبرة تمثّل هي الأخرى مؤشّرات واضحة على اقتناعنا وانخراطنا في هذا المجهود الوطني الرامي إلى الاحاطة بمواردنا البشرية والارتقاء بمنظومتنا التربوية والتكوينية إلى مستوى التحدّيات التي تفرضها مستلزمات التحديث ومجتمع المعرفة الذي نطمح إلى ارسائه. وفي هذا السياق فإنّنا نعتقد أنّ الوقت قد حان للتعجيل بمباشرة وضع خطّة العمل النقابية المتعلقة بالنّهوض بالشراكة حول التكوين المهني حيّز التنفيذ لتصبح شأنا مشتركا بين جميع النقابيين، وهي الخطوة التي أعددناها بمساعدة وزارة التربية والتكوين منذ سنة 2005 والتي نقترح ترجمتها في أرض الواقع في اطار برنامج تعاون مضبوط ومحدّد المدّة يديره هيكل تسيير مشترك يسهر على متابعة وتأطير عملية تنفيذ هذه الخطّة من الناحية التنظيمية والبيداغوجية ويا حبّذا لو ينسج شريكنا الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية على نفس المنوال حتّى تصبح ثقافة التكوين وجدوى الاحاطة بالموارد البشريةقاسما مشتركا بين الجميع سواء في مستوى المفاهيم المتداولة أو الغايات المنشودة. هكذا يمكن لنا أن ننتقل من مرحلة الخطاب المعلن والنوايا الحسنة إلى منزلة الشركاء الفعليين والفاعلين في المجالات ذات الاهتمام المشترك. نقلة نوعية إنّ أملنا كبير في تحقيق نقلة نوعية خلال فترة المخطط الحادي عشر على درب الشراكة أوّلا مع وزارة التربية والتكوين ولكن أيضا مع شريكنا الرئيسي الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بل مع كل المعنيين بتطوير الموارد البشرية في اطار مسؤولياتنا المجتمعية المشتركة. ولا شكّ أنّ ارساء الحوار الاجتماعي حول كيفية وسبل اعداد الموارد البشرية سوف ييسّر تناول مختلف الملفات الأخرى ذات العلاقة بمستقبل التنمية في بلادنا. ذلك أنّ التربية والتكوين المهني هما من الميادين التي تلتقي فيها مصالح مختلف المتدخّلين أفرادا ومؤسّسات وحكومة ومجتمعا. فالأمر يتعلّق بنموذج المواطن الذي به وله سيتحدّد وجه تونس الغد والذي به وله ستكتسب صيرورة التنمية مقوّمات المناعة والدّوام. ------------------------------------------------------------------------ (*) من كلمته في اجتماع المجلس الأعلى لتنمية الموارد البشرية يوم السبت 19 جانفي 2008 بمقر الحكومة.