هذه كلمات من وحي الاضراب العام الذي جدّ يوم الخميس 26 جانفي 1978 وبمناسبتها اقول: إنني عندما اردت في تلك الآونة تسجيل بعض الوقائع التي جدت في ذلك اليوم أبت تلك اللحظات من حياة الشعب ان تخرج من الوعي ومن الوجدان الا على شاكلة اقرب الى الشعر من النثر الذي اكتب به عادة ما يشغلني. فعسى هذه الكلمات وكما هي ان تكون شهادة على بعض ما وقع وان تكون ايضا تحية الى ارواح الذين سقطوا بمناسبة تلك الانتفاضة (470 شهيدا حسب بعض الروايات): كونهم ساهموا بدمائهم في دعم الصرح الشامخ أبدا لاتحادنا: الاتحاد العام التونسي للشغل، وكون توجيه التحية الى أرواحهم هي أقل ما يمكن ان نفعله دوما تجاههم. ... 1 كفى القلب ما عانى الشجون، انطلقي أيتها الكلمات، شقي جدران السجون، وغالبي ولولات الرصاص، فهكذا الشعر يكون اكتبي للكون سفرا بمداد من دماء، نبعه جيش الضحايا من رجال ونساء، فضلوا الموت وقوفا تحت أهوال الشتاء، ومضوا الان بعيدا... حالمين بالربيع. 2 ابدئي يا كلماتي، رددي غير المباح، عانقي انات شعب ما ابتغى غير الفلاح، كره عيش الظلام، طلب نور الصباح، واجهوه بالجريمة، اثخنوه بالجراح. 3 احك لي عن نهج روما... ها هناك قتلوه، بالرصاص حصدوه... كان «شياتا» شريفا اسمه العم سعيد، 1 قصرت رجلاه، من هول رآه عن هروب من منية، زوجه. لم تذق طعم السعادة، كثرة أبناؤه 2 بعده. من لهم غير الشقاء؟ فابك يا عصافير السماء، واذرفي الدمع دماء. 4 واصلي يا كلماتي... وادخلي باب السويقة، ها هنا ام تنادي: «اقتلوني، اقتلوني، انهم قد سبقوني، رحلوا الآن بعيدا، حملوا أغلى المنى، ها هناك حيث راحوا، يعزف لحن الخلود، ويناجي الكون سرا كل أحلام الوجود، فتكابر وتمانع... وتطلب المهر دماء... الحياة قد غدت لي مضيعة، فالحقوني بفراخي الاربعة»، ضحك الانفار منها، ثم عسفا تركوها، ترفع الصوت نواحا وتولول، ربما ماتت كظيمة، ربما عاشت سقيمة، فلتبك عصافير المدينة، بكل أصوات حزينة. 5 حلقي يا كلماتي... راقبي حي ديبوز، 3 ها هنا بنت ملاك زانها شعر حريري، ثوبها قد جديدا: أبيض كالثلج ناصع، ذات وجه داعبته شمس «كانون» الحزين، 4 فغدا والحق نورا، لطف الريح سناه، حولها الانداد، كانوا يهتفون للحياه، زغرد البارود فيها.... فغدت كحمام سربلوه بدماه... ثم ماتت وعلى الثغر ابتسامه، وكلام لم تقله في الشفاه، هي دنيا ملؤوها بالحقاره، نزعوا عنها الطهاره، فاذرفي الدمع جهارا، يا عصافير المناره. 6 هومي يا كلماتي.... واذكري كل مكان... مات فيه كادح، كان يعمل... كان يحلم... ويسير في الشوارع، هاتفا بالاخرين: «هيا هبوا، هيا هبوا، نأخذ الثأر سواء، نرمي بالاحزان بحرا ونغني للاخاء، للملايين السعاده، للملايين الحياه» بالرصاص مزقوه، قطعوه، شوهوه، فاصرخي في الناس حزنا، عمقي وجع الجراح، يا عصافير الصباح. 7 سافري يا كلماتي، وابحثي لي عن أداة المعتدين، قاتل... لكن ضحيه، ابن فلاح فقير، ألبسوه كسوة، سلموه بندقيه، فغدا وحشا جسورا، فجر فيه العداء... ذل هاتيك السنين، صاح في الناس حبا: «أنت منا لا تقاتل» قال: «لا، أنتم رمز البلاء، وأنا اليوم عظيم أحكم كل الرقاب» ثم صال، ثم جال... أطلق النيران سيلا من دخان وعذاب طعنوه في القفا، ها هنا لون الدماء، كان ثأرا وانتقاما،
إنه درس عتي للذي خان الجموع، فغدا للظلم ظلا في انكسار وخنوع، زقزقي لحنا جديدا يا عصافير الربوع، وارفعي للعين ريشا وامسحي بعض الدموع 8 في النهاية... أسرعي يا كلماتي، خاطبي حلم الشعوب، واسأليه: هل يموت؟ واسمعي منه الجواب... هو ذا الصوت يدوي: «سوف أحيا، لن أموت، سأغني بإباء، وأقول للصباح: ابتدئ هذا المساء، فاتر كوني الآن أبكي كل أبطال الشتاء، وأصيح في الروابي: ... هل رأيتم أملا مهره، غير الدماء»؟؟؟ تختلف الرواية الشفاهية الشعبية عن التسجيل الذي يمكن ان يقع طبقا لقواعد علم الاجتماع، ولكنهما قد يتكاملان. 1 الشيات: هو ماسح الاحذية باللهجة الدارجة التونسي 2 كثرة: اشارة الى عدد أبنائه، ويقال أنهم تسعة. 3 حي ديبو ز هو اشارة الى ديبوزفيل الحي الشعبي الواقع في ضواحي العاصمة التونسية. 4 كانون الحزين هو «اشارة الى كانون الثاني وهي تسمية اخرى لشهر جانفي».