ننشر فيما يلي الحلقة الثانية من مقال الصديق المناضل الأستاذ الكبير سالم الحداد حول الهوية والعولمة. قبل أن نتوضح هذه العلاقة لابد أن نرفع اللبس الحاصل بين العولمة والعالمية وعلاقة كل منهما بالهوية، فهل من مفارقة؟ أ العالمية UNIVERSALITE UNIVERSALISME هي منزع إنساني يتعلق بالمبادئ والقيم والنظريات العلمية التي تلبي طموح الانسان إلى الحرية والعدالة والكرامة، وتساعده على توفير الوسائل التي بها يحقق إنسانيته، وهي تنهض على التعددية وتستند إلى قوانين المنظومة الدولية، فهي توق إلى الارتقاء من المحلي إلى العالمي يقوم على الحوار والتلاقح والتثاقف والتكامل واحترام ثقافات الشعوب. وهذا ما عمل من أجله كل الرواد من رجال الفكر والسياسة، وضمن هذا المنزع يمكن أن ندرج الأفكار الفلسفية المؤسسة للتفكير اليوناني والرسالات السماوية وصولا إلى مبادئ الثورة الفرنسية والفكر الاشتراكي ومبادئ حقوق الإنسان. فعبر هذه المحطات تحقق العديد من الإنجازات التي حملت أبعادا إنسانية أثرت التراث الحضاري البشري واحترمت هويات الأمم رغم ما يبدو عليها من تناقض ، وكانت دوما في اتجاه التطور والرقي وسعادة الإنسان. ب العولمةGLOBALISATION ليست العولمة كالعالمية منزعا ينهض به رائد أو حركة إصلاحية أو تيار فكري بل هي نظام شمولي، يشمل المبادلات التجارية والمال والصناعة والثقافة والسياسة ويسعى إلى تحويل العالم إلى سوق واحدة تنهض بها الشركات العابرة للأوطان والقوميات والقارات. وتقف وراء العولمة وتوجهها أكبر دولة وأقواها اقتصاديا وعسكريا وإعلاميا هي الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استغلت حدوث فراغين في العالم: الفراغ الأول هو الذي أحدثه انسحاب الدول الاستعمارية الأوروبية من مستعمراتها مع خمسينيات وستينيات القرن العشرين في إطار تصفية التركات الاستعمارية، فسعت إلى احتواء أنظمة الدول المستقلة الفتية. ويتمثل الفراغ الثاني في تفكك المنظومة الاشتراكية السوفيتية وسقوط حائط برلين. وبهذا الانهيار المفاجئ اختل التوازن العالمي وانتهت الحرب الباردة وقامت دولة محورية صارت تتحكم في العالم انطلاقا من مصالحها دون رادع. ومن أجل ضمان مصالحها وظفت مجموعة من الآليات، ففيم تتجلى؟ 2 آليات العولمة يذهب الكثير من المحللين إلى أن العولمة ظاهرة موضوعية أفرزتها الثورة العلمية ووفرة الإنتاج في الدول الصناعية العملاقة التي صارت في حاجة إلى التمدد والتوسع في كامل أصقاع العالم، وبالتالي فهي ليست بالضرورة إستراتيجية أمريكية. غير أن الولاياتالمتحدة وظفتها للسيطرة على مقدرات الشعوب، لذلك فهي أقرب للأمركة، وهي إعادة صياغة العالم حسب النمط أو النموذج الأمريكي. ويمكن ذكر بعض آلياته: أ منظمة التجارة العالمية التي يتم من خلالها تحويل العالم إلى سوق واحدة تُرفع أمامها الحواجز وتزال الحدود وتلغى الجمارق ويسودها قانون المنافسة الذي يقوم على مبدإ «البقاء للأقوى» فتختل التوازنات الاقتصادية لفائدة الدول العملاقة وتنهار اقتصاديات الدول الضعيفة. ب المؤسسات المالية العالمية وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وهي التي ستغرق دول العالم الثالث في وحل الديون التي يذهب الكثير منها في ارتشاء المانحين والممنوحين. ج المؤسسات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن التي لم تر أمريكا أي حرج في تسخيرها، لشرعنة اعتداءاتها السياسية. وبهذا تمزقت كل المظلات التي كانت تستظل بها دول العالم الثالث عندما تداهمها الأطماع الخارجية. وهذا ما حصل مع العراق وأفغانستان وما حصل أيضا بالنيابة مع الصومال. د الإعلام بكل أشكاله ويتولى الترويج لأنماط من سلوك المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي من حيث المأكل والمشرب والملبس والترفيه، ويستند أساسا إلى الصورة المثيرة والمغرية خاصة بالنسبة للمحرومين، وأكثر هذه الوسائل توظيفا هو الفن السابع المطبوخ في مؤسسة هوليود التي تصنع فيها الصور النمطية وهي التي تحظى فيه الصهيونية بفاعلية كبيرة تستغلها خاصة في تشويه صورة العرب والمسلمين التي تتراوح بين العنف والإرهاب. وأوضح مثال على هذا التشويه هو الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول التي صدرت بإحدى الصحف النرويجية والتي تناقلتها كل وسائل الإعلام العالمية وخاصة الأوروبية والأمريكية. غير أن العولمة لا تستهدف العرب والمسلمين فحسب وإن كانوا يفوزون بالنصيب الأوفر، فأخطارها تشمل كل أصقاع الدنيا: دولا وبشرا، ثروات وإمكانيات وثقافات، فأين تتجلى أبرز هذه الأخطار؟ 3 أخطار العولمة شملت أخطار العولمة العديد من المجالات الحيوية وضربت العديد من الفعاليات، ويمكن الإشارة إلى أبرزها: أ العولمة والدولة بالرغم من أن الدولة هي الابن الطبيعي للرأسمالية في مرحلة نشوئها في منتصف القرن السابع عشر فإنها صارت في غنى عنها بل تحولت إلى عدو لها في مرحلة العولمة، وهي النظام الشمولي الذي أفرزته الامبريالية الجديدة،التي استطاعت أن تحقق وفرة في الإنتاج تجاوزت أسواق الدول الصناعية وشركاتها العملاقة وصارت في حاجة إلى التوسع على حساب بقية دول المنتظم الأممي. فالدولة الوطنية مع العولمة صارت تواجه العديد من التحديات منها : 1 انعدام حرية الخيار الاقتصادي: لقد كان بإمكان الدولة أن تختار نظامها الاقتصادي الذي تراوح في مرحلة الحرب الباردة بين النظام الليبرالي والنظام الاشتراكي، هذا الخيار لم يعد ممكنا في ظل العولمة التي تنهض بها الشركات الرأسمالية العملاقة المتحكمة في الاقتصاد العالمي، مما جعل الدولة مكرهة على الانخراط في نظام السوق العالمية الواحدة، فتبادر بإعادة الهيكلة الاقتصادية: وهذا يعني تحويل ملكية مؤسسات الدولة إلى الخواص سواء أكانوا من المستثمرين المحليين أو الأجانب الذين سيتولون مهمة التنمية والتشغيل. وبذلك يتحول البلد إلى سوق تجارية تنساب فيها السلع حرة دون عراقيل لا يحكمها غير قانون المنافسة، تحركها الشركات العملاقة وأجهزتها المتنوعة لا تراعي في تعاملها إلا مصالحها غير عابئة بعذاب المستغلين، فتغلق المؤسسات الصغيرة أبوابها وتسرح عمالها. 2 تقلص سيادة الدولة عندما تنخرط الدولة في السوق العالمية تصير عرضة لمجموعة من الإملاءات التي تفرضها الشركات الاستثمارية قصد الانتصاب وتشترطها المؤسسات الدولية قصد تقديم القروض، فهي مضطرة لرفع حواجزها ولفتح حدودها والسماح بحرية التوريد والتصدير، ليس هذا فقط بل عليها أن تقدم الإعفاءات الضريبية للمستثمرين وأن تتخلى عن منظومة القوانين الاجتماعية التي ضمنت الحد الأدنى من حقوق الشغالين، فقد مررت الدولة هذا التخلي تحت عنوان مرونة الشغل التي لا تعني شيئا سوى وضع مصير العامل تحت رحمة العرف انتدابا وعقابا وترسيما وطردا. غير أن العولمة لم تكتف بفرض خصخصة المؤسسات التجارية والصناعية بل إنها اقتحمت مؤسسات الخدمات الاجتماعية التي تضمن للمواطن الحقوق الأولية، ألا وهو حقه في التعليم والصحة، فأخطارها طالت الوضع التربوي والصحي للمواطن. وبالإضافة إلى التنازلات الاقتصادية والاجتماعية فإن الدولة قد تضطر إلى بيع أراضيها للشركات الأجنبية قصد الانتصاب فيها أو حتى المضاربة بها وقد تسمح بإقامة مناطق حرة تخرج عن سلطتها وقوانينها. ولعله من السابق لأوانه أن نستنتج أن الدولة الوطنية قد تتحول إلى وكالة أجنبية للدول العملاقة التي تتحكم في اقتصاد العالم. غير أن التحديات التي تتعرض لها الدولة لا تكتسي صبغة اقتصادية واجتماعية فقط بل إنها سياسية أيضا، فقد انتهت المرحلة التي كانت فيها الدول العملاقة تراهن على الفصيل الحاكم، فحرصها على حماية مصالحها جعلها تنسج علاقات مع القوى المعارضة سواء من الأحزاب أو من منظمات المجتمع المدني، وبذلك تتحول إلى مرجعية للسلطة والمعارضة في نفس الوقت فتضعف الطرفين. فالسلطة الحاكمة لم تعد قادرة على الانفراد بالقرار حتى ولو أصدرته بنفسها، فهي مضطرة إلى أن تأخذ بعين الاعتبار التحولات على المستوى المحلى والدولي، وهذا ما نلاحظه من خلال ازدواجية الخطاب في مجمل البلاد العربية، فقضية حقوق الانسان فرضت نفسها رغم المضايقات التي تعيشها المنظمات المناضلة من أجلها. وأهم مجال يمكن أن نجزم بأن الدولة فقدت السيطرة عليه أو هي على الأقل بصدد فقدان السيطرة عليه هو مجال الإعلام ، فثورة المعلومات وانجازاتها التكنولوجية التي تجسدت في شبكات الإنترنت والقنوات التلفزية، أبطلت فاعلية رقابة الدولة على أسرارها فلم تعد قادرة على احتكار المعلومة وحجبها عن الشعب، فقد صار المواطن أكثر دراية بمظاهر الخلل في مجتمعه ، وبذلك انتهت المرحلة التي كان فيها المناضلون يتعرضون فيها للمحاكمة من أجل تسريب منشور سياسي . ب العولمة والإيديولوجية بلا شك أن تلاشي الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة اعتبره أنصار العولمة انتصارا للإيديولوجية الامبريالية الجديدة وهزيمة العقيدة الاشتراكية. وقد استغله المحافظون الجدد ليؤكدوا نهاية الصراع الإيديولوجي وأن النظام الرأسمالي هو الوحيد القادر على تنظيم حياة الشعوب ، بالرغم من أن العولمة ليست إيديولوجية لكنها تماثلها من حيث هي نظام شمولي يتناول الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، غير أنها خلافا للإيديولوجية تعمل على تسطيح الفكر ومحاربة الوعي وتهميش أصحابه وإيجاد حوافز تغري بالاستهلاك والترويج لأنماط معينة من السلوك لا يولي أهمية للأفكار والقيم. ج العولمة والإنسان ولم تقتصر تداعيات العولمة على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بل إنها استهدفت الانسان كذات بشرية، فقد تحول من هدف تعمل مشاريع التنمية لتلبية حاجياته الحسية والروحية إلى وسيلة وقطعة غيار تستهلك ثم ترمى، بل إنه في كثير من الأحيان يتحول إلى سلعة تباع وتشترى في الأسواق، يوظف لتحقيق الأرباح الطائلة. وهذا ما جعل البعض يتحدث عن الرقيق الأبيض ونخاسة حديثة، فتشغيل الأطفال في آسيا وتهريبهم من إفريقيا إلى أوروبا قصد بيعهم أشلاء والمتاجرة بالجنس، كلها دلائل على انهيار القيم الانسانية في نظام عالمي صار همه الأول والأخير المادة ولا شيء غير المادة، الربح ولا شيء غير الربح. وقد أيقن منظرو العولمة أن السيطرة السياسية والاقتصادية لا يمكن لها أن تستمر ما لم يهدم آخر الأسوار المنيعة التي تتحصن به الشعوب المستضعفة، ألا وهي هويتها الثقافية، ولعلهم قرؤوا ما لم يقرأه الطابور الخامس في بلداننا، لقد قرؤوا أن الهوية هي التي تصدت للاستعمار التقليدي وخاصة الفرنسي والإيطالي فشنوا عليها ما صار يعرف بالحرب على الهوية، فأين يتجلى ذلك؟وما هي أبعاد هذه الحرب؟ وكيف تبدو الهوية في هذا الصراع فهل تنهار كما انهارت حواجز الدولة وانحلت مؤسساتها وانفرط عقدها لفائدة العولمة.فكيف نظّر هؤلاء للعلاقة بين الهوية والعولمة؟ ثالثا العولمة والهوية : هل هي علاقة تنافر أم تجاذب؟ حتى نتبين هذه العلاقة لا بد أن نتساءل عن طبيعة العولمة؟ هل تحمل أبعادا إنسانية تجعل الشعوب ترتاح إليها وتتقبلها أم تحمل أبعادا استعمارية عدوانية تدفع الشعوب نحو التصدي لها ؟ هل أتت لتثري هويات الشعوب وتثرى بها ؟ أم لتمحوها من الوجود لتعيد صياغة ثقافية نمطية معولمة في خدمة الإمبريالية الجديدة؟ 1 العولمة ظاهرة شمولية بلا شك أن العولمة ليست ظاهرة اقتصادية وسياسية فحسب بل إنها ظاهرة ثقافية أيضا والثقافة هي ظل من ظلال العولمة الاقتصادية والسياسية، إنها تقوم بالتسويق لهما. وحتى تستطيع ثقافة العولمة أن تؤدي دورها لابد لها من أن تزيح الثقافات الوطنية والقومية التي تتحصن بها الشعوب والأمم. لذا لا غرابة أن نجد في مقدمة خططها الحرب على الهوية، فهي تقوم بعملية التفريغ والشحن، تفريغ الأمة من مكوناتها الحضارية عبر حملات التشويه والتشكيك والاستخفاف، وشحنها بثقافة الاغتراب وهي ثقافة المجتمع الاستهلاكي بما فيه من وسائل الإغراء والمتعة.