تفاعلا مع احداث الخميس 26 جانفي 1978، كان عديد المتفقين قد كتبوا القصة والرواية والفصول المسرحية وألفوا الكثير من القصائد، وكلها نشرت في ابانها. وبمناسبة مرور 30 سنة على تلك الاحداث الأليمة، ننشر فيما يلي قصة قصيرة للاستاذة الأخت آمنة بن مصطفى الخريجي، وهي واحدة من قصص عديدة جمعتها أختنا الكريمة في كتاب أصدرته تحت عنوان «سر خديجة». ظل الناس مدة معلومة اذا ما تذكروا ذلك اليوم الذي شهر بالخميس الأسود لا يتحدثون عنه الا همسا. اما هي فما زالت تتذكر صحوها ومنيرة والطفلين ابنها ومنى ابنة منيرة على أزيز الطائرات الخضراء تحلق في الفضاء بغيضة الى النفوس التي رأت في تحليقها انذارا بالشرّ. لم تغفوا في ليلة ذاك الخميس الا قرب الفجر حيرة على الغائبين اللذين لم يعودوا الى البيت. ظلتا الليل كله قابعتين متدثرتين بفراشية من صوف وقد استند ظهز كل واحدة منهما الى متكإ الكنبة. أنساهما لعب الطفلين بين خضنيهما قلقهما ولكن القلق تضاعف لما أرخى التعب جفني الطفلين وشمل الشقة سكون مزعج رهيب. اشتد أزيز الطائرات فقفزت المرأتان الشابتان عند سماعه ونحت كل واحدة منهما الغطاء عن جسمها ثم ارتدت على عجل لباسا من صوف يقي من برد جانفي وعزمتا على الخروج لاستطلاع الامر. ثم فكرتا في تسلق سلم السطوح لمشاهدة ما يحدث. الدخان الاسود يتصاعد في الفضاء. الطائرات لا تنقطع عن التحليق. طلقات نار تسمع عن بعد. تركتا السطوح في هلع. ازداد قلقهما على الزوجين الغائبين. فكرت في ان تستأذن الجارة في مكالمة هاتفية. لم تصد الجارة مطلبها وقد آلمها ما كانت عليه جارتها الشابة من اضطراب وشحوب وهي تقول: هوني عليك يا ابنتي وتشجعي وتحلي بالصبر. لم تقل شيئا من فرط الحيرة والقلق والتأثر. أدارت الارقام بيد مرتعشة. كررت الرقم مرارا. الخط مشغول باستمرار او هكذا يبدو. عادت أدراجها خائبة تحيط منيرة علما بعجزها عن الاتصال بمقر الاتحاد العام حيث اجتمع المسؤولون عن جميع القطاعات ليلة الاضراب العام. أرادت ان ترافق منيرة في سعيها الى معرفة ما يجري لكن منيرة أبت ذلك مقنعة اياها بأن تبقى مع الطفلين. غادرت منيرة الشقة تاركة صديقتها على احر من الجمر ولم يمض الا وقت قصير حتى رأتها تعود على غاية من الشحوب والقلق والاضطراب. الجيس بسلاحه الثقيل يملأ ساحة باب سعدون. دخان الحرائق يتصاعد في الفضاء. الجند حال دون منيرة ودون التقدم نحو الاسواق. الناس هاربون عائدون أدراجهم وكأن البلاد تخوض حربا ضروسا. أسرعتا نحو المذياع لاستطلاع الامر. الاخبار لا تبشر بخير بل هي تدين الامين العام للاتحاد وجميع المسؤولين على حدوث الاضراب العام. ان النشرات تتحدث عن خونة للبلاد. انتهى نشر مقالات احد الصحفيين الذي اشتهر لدى القراء بنقده وهزله تراجع الصحفي الآن في موقفه ان صوته أضحى يلي كل مقطع اخباري منضما الى سلطة الحكم مسددا إصبع الاتهام الى النقابيين. أغلقتا المذياع يكفيهما ما استمعنا اليه فالخطب تليها الخطب والتهديد صريح والوعيد حاد واللهجة حقد وحنق والغاية غسل الأدمغة وإغاضة الرأي العام وتأليبه ضد المناضلين والنقابيين المضربين بسبب انخفاض الاجور وارتفاع الاسعار وظلم الاعراف وغيرها من المطالب الشرعية. لم تلمسا طعاما فحلقاهما كالمعقودين من الحيرة والشهية منعدمة. حدثتهما نفساهما بأشنع الامور. اتصلتا بالاقارب والاصدقاء. الخوف مسيطر على الناس جميعا. أضحت الاشاعات تتحدث عن قتلى لا يحصى لهم عدد دفنوا خلسة ليلا والعائلات ألجم ألسنة افرادها الوعيد والتهديد والجولان قد حظر منذ الساعة الثامنة ليلا فلا أحد يجول في الشوارع عدا الجنود ورجال الشرطة ومليشياتها والقطط والكلاب المتشردة. قالت متحسرة: لهفي على المعتصمين بدار الاتحاد من أدرانا انهم لا يزالون من الاحياء الآن؟ ليس من المحال اعتقالهم او اعدامهم. قالت منيرة: دون محاكمات؟ أجابت قائلة: لابد من كباش فداء لطمس الحقائق. وأجهشت بالبكاء. لم تطق صبرا. فانحنت عليها منيرة تطمئنها وتربت على كتفها رغم ما اعتراها من هلع على زوجها وزوج صديقتها. ثم اردفت قائلة: كوني متفائلة. بكاؤك قد أفزع الطفلين وهاهما بدورهما ينتحبان فما ذنبهما؟ مرّ يومان على الحدث. أقبل الاقارب نحو بيتها وقلوبهم يملؤها الخوف والفزع. جاء بعض من الرفاق لمد يد المساعدة واحتجب البعض تحسبا وخشية. بدأت دوامة البحث عن المعتصمين بمقرات الاتحاد. طافت بالمستشفيات. فاطمأن قلبها اذ لا اثر لهم هنالك. اذن لم يبق الا حل وحيد. فتوجهت الى وزارة الداخلية بقلب خافق فلكم بعث في نفسها الرعب ذاك البناء الداكن اللون وقد أحيطت نوافذه بالقضبان. ولكم تحدث الناس على مسمعها عن تصرفات اعوان فيه هم الزبانية بعينها يخضع لعنفهم صناديد الرجال. فاقشعرّ لذكرهم شعر جسمها وحاولت ان تقصي عن ذهنها أفكارا سوداء كهذه. تقدمت من عوني الامن الواقفين على يمين الباب الاسود العريض وعلى يساره فصوّبا نحوها بحركة سريعة فوهة البندقية الطويلة. استفسراها عن سبب قدومها فسألت عن الغائب منذ يومين عن البيت دون مكالمة او اتصال فسرعان ما جعلها العونان تعود من حيث أتت نافيين كل علم لهما بالخبر. وتوالى ترددها على الوزارة والاعوان هنالك يصدّون ويدفعون ولكن عدد الباحثات من النساء عن أزواجهن النقابيين المضربين نما تدريجيا حتى ضاق الاعوان بهن ذرعا وخشوا ضجتهن واحتجاجهن. ورفضت سلات الطعام المعدة للموقوفين اياما عدة. فأدركت النسوة من توضيح المحامين انه ما دام هنالك بحث فلا حق لأزواجهن في طعام، وملأ الجزع قلوبهن على من نبضت بودهم الأفئدة. أقضت الكوابيس مضجعها تتراءى لها ساحات للاعدام وبرك من الدماء وأرامل في حالة حداد وأمهات ثكلى وسجون نائية قاصية على ابواب الصحاري القاحلة. ألم تعدم مجموعات من قبل بتهمة تهديد الامن العام وقلب النظام؟ وتظل شطرا من الليل لا يهدأ لها بال ولا تجف مآقيها من دموع ساخنة سخية. مرت بضعة اشهر على الايقاف وبدأ المحامون يستعدون للمرافعات دون ان يتاح لهم ما يكفي من وقت لتدارس الملفات. ولم يبخل المحامون الملتزمون بمجهوداتهم عند الدفاع رغم المضايقات. صعد النقابيون على مصطبة الاتهام رافعين في حركة واحدة علامة النصر فارتفعت حيئذ زغاريد النساء فخورات مؤازرات. صمد المحاكمون امام ما نسب اليهم من تهم هم الذين رغبوا في تحسين وضع الطبقة الشغيلة وتحسيس أرباب الحكم بواجبهم. توالت ايام المحاكمة يصاحبها قلق العائلات على مصير الموقوفين فليس باستطاعة احد ان يقدر ما سيلحقهم من أذى. حان موعد التصريح بالحكم فوجفت القلوب وأمسكت قريبات المحاكمين وأقرباؤهم بأيدي بعضهم البعض مواساة وتشجيعا. عمّ القاعة صمت شامل ثقيل على النفوس. بلغها رغم القلق الذي بلغ ذورته من ان يكون الحكم سجنا مؤبدا او اعداما صوت والدة زوجها تشكر أولياء الله الصالحين وتعدهم بوفائها بوعدها فهي ستقدم لهم في القريب العاجل قصاع الكسكسي. فابتسمت والدموع تنحدر مدرارة فبين شر وشر اختيار والحكم سجنا أفضل من المؤبد او الاعدام رغم البراءة والحيّ يعود.