كنّا للقمر جيران كما تعلمون، ولكننا هجرناه (!) بعد أن نزل على أديمه (إن كان له منه ذلك) أحد أحفاد معمّري قارة الانسان الأحمر، رعاة البقر الذين صاروا بفضل «النازا» غزاة للقمر. ولا أخفيكم أنّي أصبحت منذ زمن بعيد في حيرة كبيرة من أمري، بين أنّ أصدّق العلم وأثني على العلماء حتى ولو كانوا من أصحاب القنابل الذرية وبين أنّ انثني على نفسي رافضا كّل جديد، وكلّ اكتشاف ما دام قادما من عند اولئك. وزادت حيرتي، بل أخذ التناقض يهزّني من أسفل الى فوق ويلطمني لطما ويقضّ مضجعي، لما رأيت منذ أيام فقط أنّ «النازا» هذه توظّف واحدا من شبابنا (محمد الاوسط العياري) وأنّها مكنته ممّا احتاج إليه من وسائل حتى استطاع ان يصلح احدى آلات مسبار هابل فمن أصدق، «النازا» أم محمد الاوسط أم خطباء أيّها الاخوان والرفاق المسحوقون؟ هجرنا القمر لأسباب كثيرة منها أنّه أصبح على مرمى حجر، وركبنا السيارات نحاول اللحاق به أو الطيران إليه، وإلاّ فبماذا تفسرون ان سيارة لها اربع عجلات تجري بسرعة تزيد عن ال 300 كلم في الساعة، وانّ اخرى تشق الانهار والوديان وان ثالثة تتسلق الجبال. لن اتحدث طبعا عن سيارة «جيمس بوند» التي قيل انّها صنعت فقط لسلسلة الافلام المعروفة، لكنني أسأل ما الذي يمنع أثرياء اليوم و»مهابيله» من ان يرسلوا في طلب نموذج منها، خاصة ان لاشيء يمكن ان يزعجهم، ان يقلقهم او يؤثر في جيوبهم، جاءت أزمة النفط ام ذهبت، ارتفعت الاسعار ام نزلت. عكسي أنا بطبيعة الحال وعكس الملايين مثلي ممّن توهّموا انّهم تركوا الفقر وراءهم لما تسلقوا البعض من درجات السلم الاجتماعي من خلال وظيفة تبدو محترمة وأجر يبدو محترما وسيارة تبدو هي الأخرى محترمة (والحمد لله على كل حال). رغم كلّ هذ الاحترام، أعترف أن أزمة النفط أرهقتني وعبثت بميزانيتي، فبحثت عن وسائل وطرق أصدّها بها وأساليب مقاومة اعترض بها عليها، ولما لم أجد ما يشفي الغليل في مخزوني الفكري، التجأت، رغم التناقض الذي مازال قائما في داخلي، الى أحفاد رعاة البقر وما شابههم من الاجداد والاولاد... لعلّي أجد عندهم ضالتي. وفعلا حصل. فلقد صادفت في واشنطن ان الطرق السريعة المؤدية إليها في الدخول صباحا تصبح ذات 4 وفي بعض الاحيان 6 ممرات ومثلها في الخروج مساء، كما صادفت ان الممر الرابع أو السادس مخصص وجوبا ودون سواها، للسيارات التي تقل أربعة مسافرين فما أكثر، وصادفت أن لا أحد تجرّأ على السير في ذلك الممر رغم خلوّه من ناقلات الاربعة مسافرين فما فوق، ولما أوحيت لمرافقي أنني «أفعلها» لو كانت عندي سيارة، نصحني بان لا أفعل ذلك إطلاقا لان كاميرات الشرطة وقنوات التلفزيون المتخصصة تفضحني أمام أمريكا كلّها فضلا عمّا يلحقني من عقوبات ماليّة. صادفت في لندن أن أجزاء كبيرة جدّا من هذه المدينة ممنوعة على السيارات الخاصة أيام الاسبوع الخمسة الاولى مقابل فتحها امام الحافلات وسيارات التاكسي وسيارات الخدمات وبعض الفئات المحدودة، وعلى من يرغب، رغم ذلك في استعمال سيارته الخاصة داخل المدينة ان يدفع رسوما يومية مبلغها 8 «باوند» اي جنيه استرليني اي ما قدره عشرون دينارا تونسية. وصادفت في لندن أنّك تستطيع، نتيجة لهذا الاجراء، ان تعدّل ساعتك على موعد وصول وانطلاق الحافلة المزدوجة (ارتفاعا) التي تقلّك الى الحي الذي تقطن فيه او اي وجهة تريد الذهاب اليها، كما صادفت في لندن ان جميع انواع عمليات التزود والتزويد ورفع الفواضل تقع ليلا. صادفت في باريس أنّهم (لاحظوا أنّ صاحب الفكرة مولود في تونس) ابتدعوا فكرة التجوال والتنقل بواسطة الدراجة العادية وذلك اقتصادا للطاقة وتخفيفا من أزمة المرور وتهدئة للأعصاب... خاصة لما يتعلق الامر بقضاء شأن إداري أو خدمي في مناطق المدينة المتباعدة أو حتى زيارة الاقرباء والاصدقاء. وصادفت في باريس، بلد الجنّ والملائكة على حد وصف طه حسين، انّهم احتفلوا منذ أيام بمرور عام على بدء التجربة ونجاحها الساحق حتّى أنّها أخذت تمتدّ إلى مرسيليا وليون وتولوز ونانت... وإلى غيرها من المدن الفرنسية والاوروبية. الفكرة بسيطة (موجودة عندنا) تتمثل في كراء دراجة عادية (وليس نارية) لمن يرغب وقد لاقت الفكرة اقبالا شديدا بما انّه تم في ظرف سنة تسجيل 26 مليون رحلة معدل كل واحدة 18 دقيقة وتسجيل 110 الاف عملية كراء وإقامة 1200 محطة كراء. ونحو 200 الف مشترك سنويا. عدت الى تونس التي لا أطيق فراقها وكلّي عزم على تطبيق ما يمكن لي تنفيذه من أفكار، لكنني لم اعرف من أين أبدأ. وفيما أنا كذلك، صادف أن احتجت الى وثيقة من إدارة لا تبعد عن مقرّ عملي اكثر من 500 متر في أقصى الحالات ولا يستغرق الذهاب إليها أكثر من ربع ساعة مشيا على الأقدام. وصادف أن كان الامر مستعجلا فركبت سيارتي أملا في قطع المسافة بسرعة. وصلت حيث حاجتي بعد نحو نصف ساعة وصادف ان المأوى القريب كان مكتظا فركنت سيارتي على الرصيف المقابل مقدّرا أنني لن أتأخر أكثر من 5 دقائق. لكن صادف ان مرّت الرافعة البلدية فأخذت سيارتي الى مأواها الخاص حيث استغرق مني اللحاق بها نحو نصف ساعة أخرى وتَطلّب مني استرجاعها دفع ثلاثين دينارا مقابل الحجز وخمسين دينارا اخرى لاصلاح ما افسده الجرّ القسري للسيارة في نظام الفرملة اليدوية. أمّا وقد عدت الى مكتبي واسترجعت في لحظة شريط الحادثة، صادف أن تذكرت أنّني تونسي.