من مختلف الأعمار والمشارب والاديلوجيات جاؤوا.. من وراء الصمت جاؤوا.. من خُطى الوفاء لدرويش هلّوا.. نساءً، رجالا، شيبًا، شبابا، تلامذة وطلبة وعمّال حقوقيون مربين خبراء. نشطاء مجتمع مدني... غصّت بهم الساحة المفتوحة للاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس، الكلّ يتعالى على ألمه لفقدان فارس الشعر العربي الحديث والكلّ يُسلّم على الكلّ القاعة الداخلية الكبرى أيضا بدت ملآنة بضيوفها، حضر أبناء بن عروس بكثافة تلبية لدعوة لجنة الشباب العامل في احتفائها بدرويش الحاضر بيننا والغائب عن الوجود المادّي إذ اختارت لجنة الشباب العامل أنّ تخصّص النسخة الثالثة «للفورم» لتكريم الشعر واعلائه والاحتفاء به... حضر أيضا كل أعضاء الاتحاد الجهوي وحضر عدد مهم من الاخوة أعضاء المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل محمد سعد، بلاسم العيّاري، علي بن رمضان، محمد الطرابلسي، حسين العبّاسي، المولدي الجندوبي، محمد السحيمي، حضروا تحيّة للشعر واكرامًآ لمنجز محمود درويش الخالد، ذاك المنجز الذي غنّى طويلا للحرية والانعتاق ولم يُحلّق أبدًا خارج دائرة الضوء التي تشير إلى فلسطين أرضا وقدسًا وعودة ولاجئين. دقيقة صمت اللقاء في الفوروم انطلق بدقيقة صمت ترحّما على روح محمود درويش الخالدة دعت إليها الأخت وسيلة عياشي مسؤولة المرأة والشباب العامل والاعلام بالاتحاد الجهوي التي رحّبت أيضا بالضيوف مشيرة إلى أنّ اتحاد بن عروس كان دائما فضاء للفكر والفن والنضال والثقافة ضمن نشاطاته تحتل حيّزا مهمّا باعتبار أهميتها في رسم مستقبل كل الشعوب.. ثمّ أشارت الأخت عيّاشي أنّ هذا اللقاء وان حفّهُ غياب محمود درويش فإنّه فرصة طيبة للإلتقاء بكل الاطارات النقابية ومحبّي الشعر وهو أيضا فرصة طيبة لتعريف شبابنا الصغير بما تيسّر من المسيرة الحافلة لشاعر بقامة وطن كمحمود درويش. بعد ذلك، رحّب الأخ مراد المهذبي منسّق الشباب العامل بالضيوف وشكر كلّ من ساهم في الاعداد لهذا التكريم ضمن نشاط الفوروم ثمّ فُسحَ المجال للأستاذة حياة اليعقوبي للتتحدّث عن مسيرة محمود درويش من خلال الحديث عن عالميته التي حكمتها دائما ثنائية الوطني (القومي) والكوني برغم صعوبة الموائمة بين هذين البُعدين بالنظر إلى سيرة درويش الاستثنائية التي فقد خلالها جنسيته الفلسطينية ولم يستردها قط وعاش لاجئا طول عمره... اضافة الى ما عرفه الأدب العربي من تحدّيات البروز على خارطة الأدب العالمي فضلا عن أدب شعب تحت الاحتلال. وقد عرف شعر درويش كما أشارت الأخت اليعقوبي مرحلتين هما مرحلة الشعر السياسي المباشر ثمّ مرحلة باريس التي تخلّى خلالها عن المباشرتية في القصيدة وهي المرحلة التي فتحت أمامه أبواب الأدب العالمي. فالحديث عن درويش لا تكفيه الساعات الطوال تقول الأستاذة اليعقوبي ولكن يكفيه ويكفينا أنّه ساهم في توطين القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي العالمي وكسر ذاك التعارض المفتعل بين الرسالة القومية (هموم الوطن) والرسالة العالمية للشعر (هموم الانسان). فكّر بغيرك اثر هذه المداخلة النقدية وفي اطار التنويع في فقرات النشاط قدّم المخرج رضا بن حليمة شريطا وثائقيا قصيرا بعنوان «فكّر بغيرك» عن سيرة الشاعر محمود درويش قبل أن يقدم د. منصف الوهايبي شهادة مرتجلة عن علاقته بدرويش التي استمرّت من نهاية سبعينات القرن الماضي وحتى 2007، وقد ركّز فيها على الجوانب الخفيّة من محمود درويش، تلك الجوانب الانسانية في شخصيته التي تبدو جادّة ومتجهّمة ولكنّها أيضا شخصية مرحة ومحبّة للحياة فهي مزيج بين الطيب والانفعالي وقد قرأ الوهايبي نصّ «لا أعرف الشخص الغريب ومآثره» لدرويش وختم بأنّ هذا الشاعر سيظل نابضا بالحياة رغم موته لأنّه شكّل سلطة الضمير اليقظ حتى عند الذين يختلفون معه. موسيقى وشموع أيّها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسمائكم وانصرفوا واسرقوا ماشئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة هذه هي بعض الكلمات التي اختارها الفنان مراد جاد ورفيقُه من فرقة العودة محسن بن أحمد ليُكرّما من خلالها درويش عبر تلحينها وآدائها، وبين ما أدّى مُراد جاد وما سيقدمه رضا الشمك ولبنى النعمان قرأ نورالدين الشمني قصيدة مديح الظلّ العالي ثمّ أدّت نوال بن صالح ولبنى النعمان بمصاحبة موسيقية في العزف على العود للفنان رضا الشمك ومن تلحينه قصائد رائعة لمحمود درويش منها: الزنبقات السود في قلبي وفي شفتي اللهب. ثمّ كانت خاتمة هذا الاحتفاء بدرويش الحاضر الأبدي فقرة موسيقية لفرقة الحمائم البيض تفاعل معها الجمهور الذي لم يُغادر السهرة برغم كثرة الفقرات المبرمجة خلالها وسهر حتى وقت متأخر اكراما لدرويش ولشعره ونضاله واكرامًا للفن الملتزم والراقي.