استوقفتني أمام مبنى البلدية وسألتني ان أبحث لها عن رقم «ليلى» في ذاكرة هاتفها الجوّال... رأيت نظارتها السميكة ففهمت... ولكنّها دون سبب واضح شرعت في النشيج وهي تخبرني أنّ هذا الهاتف على ملك زوجها المتوفي منذ خمس سنوات.. لم تشأ كما تقول أن تستبدل رقما آخر ولا أن ندرج في ذاكرته أرقاما وأسماء أخرى.. فذاكرتها توقفت مع المرحوم ومعارفها لن يزيدوا مطلقا على معارفه... بين دموعها الغزيرة وابتسامتها الطفولية مساحة ذكرى فقط... تتذكر زواجها وقدومها من مدينة الكاف إلى تونس وسكنها في شارع قرطاج وبناتها وأزواجهن وأعمالهن وأحفادها ورأفة المرحوم وحنانه وغضبه خمس عشرة دقيقة كانت كافية لتروي لي هذه السيدة التي لا أعرفها مقتطفات ضافية من كل مراحل حياتها ولولا أن استأذنتها بلطف أن هناك عملا ينتظرني لبقيت تحدّثني لساعات طويلة... فالأكيد أنّ الوحدة تثقل عليها بعد زواج بناتها وغياب رفيقها... أنا لا أعرف هذه السيدة ولا أعرف حتى اسمها لأوجّه لها تحيّتي بمناسبة عيد الأمهات ولكنّي سأتوجه من خلال حكايتها إلى كل أمّ فارقها الأحبّة بالغياب أو بالجغرافيا.. الى أمّي.. إلى أم السعد التي عاشت معه ما يربو عن الستين عاما.. لم أسمعها خلالها مرّة تتذمّر.. كان يخاطبها بالشعر مثمّنا ما تطلبه قائلا: «القول ما قالت حذامِ» وكانت تخاطبه بالودّ.. مات الشيخ فغاب الشعر وانتابها المرض... لم تكن تشكو من شيء أكثر من ضغط وراثي... فإذا بالقلب يتعب.. والذهن يفقد سيطرته على الكلمات، والمفاصل تعلن العصيان فجأة ويتملك الفقر بأوردة الدم.. انّها أمراض الشيخوخة يقول الطبيب ولكنّي لا أصدقه انّها أمراض الفقر.. إنّها أمراض من غادره الحبيب والرفيق.. وتفرّق من حوله الأبناء جمعتنا الأمهات في حبّات القمح فافترقنا في الرغيف وفي المنستير... ذهب عزّي معه تقول متحسّرة وذهب أنيسي وتآكلني الفراغ... لم أعد سيدة مطبخي الذي احتّلته «الكنة» ولم أعد أختار برنامج يومي ولا قائمة طعامي احتل فضاءاتي نساء أخريات وعمّرت بناتي وحفيداتي فضاءاتهن.. لا أطلب أكثر من حسن الختام وأن تبقوا في تواصل بعد غيابي... إليهنّ أسوق تحيّتي.. إلى قمرة ومحبوبة وصالحة وزهرة... إلى اللواتي غادرهن الرفاق وانفضت من حولهن المجالس إلى سيدة النشيج أمام البلدية.. إلى أم السعد التي مازالت منذ رحيله تطلب أن أبرز صورته وصورتها في ذات الإطار لتبوّأها صدر غرفتها وبؤبؤ عينها. إليهنّ في هذا الوفاء... لقد استعدتُ بعد غيابه بعضا من حياتي الاجتماعية واستعضت بطلّة الجارات عن طلّة الأبناء وباتت زياراتي للأقارب والتهاني والتعازي أكثر تواترا ولكن هيهات «أن يُشبع من لبن الغير»... تقول عمّتي العجوز.. التي تخلّت عن برود كحلها لفائدة منديل قماشي تمسح به دموعها التي تنزل بسبب ومن دونه إليهن وقد أدمنّ رفقة حقائب يدويّة كانت تزخر سابقا بالطيب والطيبات وباتت تزخر بالأدوية والوصفات... إليهنّ في ذاك الانتظار الطويل الذي يرافق أمسيات الصيف في ظلّ الجدار... إلى كؤوس شايهن ومغازلهن ومفارشهن القديمة... وتلك الأغاني المنبعثة من راديو مربوط إلى السقف من أزلٍ... إليهنّ.. أمّي... عمّتي.. أختي... قريباتنا والجارات إلى اللواتي انفرطنا من حولهن وتركنا لهن الذكريات إليهن وقد غادر الرفاق... إلى وفائهن وشموخهن.. إلى حبّهن اللبني وصدقهن السكري... وكبريائهنّ الزعتري... إلى كل الأمهات أسوق ألف تحيّة إكبار وإجلال وإلى الأمهات الوحيدات أسوق آلاف التحايا والقبلات وإلى اللواتي لم يتمكّن من يكنّ أمهات ليتشرفن حتى بالإنتماء إلى هذا العيد... أسوق تحيّتي الخاصة جدّا والوحيدة.. لأنّي أحيّى النفس من خلالهنّ وأهدي القلب زهرة بنفسج قد لا أجد يوما منْ يقطفها لي من حوض حديقتي.