جامعة الثانوي تدعو الى وقفة احتجاجية    مقتل شخص وإصابة 3 آخرين في إطلاق نار بحفل في نيويورك الأمريكية    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    سعيد يشدد على ضرورة وقوف العالم الإسلامي صفا واحدا نصرة لفلسطين    برنامج تعاون مع "الفاو"    استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    انعقاد ندوة المديرين الجهويين للنقل    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    بطولة الكرة الطائرة: الترجي الرياضي يواجه اليوم النجم الساحلي    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاومة في فلسطين بين الآفاق والأنفاق (5/2 )
سالم الحداد
نشر في الشعب يوم 27 - 06 - 2009

عندما سأل مراسل الجزيرة أحد قيادات حماس عما إذا كان التصعيد سيساعد على إفراز قيادات متطرفة داخل الكيان الصهيوني في الانتخابات المقبلة، قال: «نحن لنا أجندتنا الخاصة ولا نعدل على بوصلة غيرنا». فإذا كان ما قاله صحيحا فأعتقد أنه يتنافى مع أبسط قواعد المعارك السياسية والعسكرية. أليس من الحكمة أن يقع درس الوضع المحلي والإقليمي والعالمي قبل الإقدام على أية مغامرة ؟ إن المزارع البسيط قبل أن يتجه إلى الحقل يستطلع أحوال الطقس، فكيف لا يهم قيادة حماس أن تدرس الوضع عند العدو. نعم المطلوب من المقاومة أن تأخذ زمام المبادرة في الصراع حتى تربك عدوها ولا تترك له فرصة اختيار التوقيت، لا أن تعطيه الفرصة المناسبة لإنجاز خطته، فكيف كانت الأوضاع السائدة في الكيان الصهيوني، هل كانت الظرفية ملائمة للصدام؟
عندما رفضت حماس إيقاف إطلاق الصواريخ كان الكيان الصهيوني على أبواب انتخابات تشريعية، وكان الرأي العام يعيش مخاضا سياسيا متوترا تتنازعه كثرة الاختلافات حول ثلاث مسائل: كيف يقع التعامل مع حماس ؟ هل نقبل مقترح الدولتين الذي تقدمت به أمريكا والرباعية؟ كيف ستكون العلاقة مع إيران؟
استغلت الطبقة السياسية إطلاق الصواريخ لتلهب حماس الناخبين وتزيد من نقمتهم على الفلسطينيين، فسادت المجتمع الصهيوني حمّى الانتخابات وكان رهانها الوحيد من هو الأقدر من المترشحين على تدمير غزة واجتثاث حماس؟ فالماسكون بزمام السلطة مثل وزير الدفاع ووزيرة الخارجية ورئيس الوزراء آنذاك وجدوا فرصتهم لإثبات جدارتهم في إدارة الحرب عسكريا وسياسيا لحماية كيانهم من «الإرهاب» أما من ستفوته فرصة المساهمة في هذه المجزرة مثل ناتنياهو وبرمان فقد قدم الوعود لناخبيه بالتراجع حتى عن الوعود الأمريكية.
وبقطع النظر عن حمّى الانتخابات فقد كان هناك اتفاق لدى كل مكونات الطبقة الحاكمة على أن حماس أفعى سامة، لكنها اختلفت حول كيفية التعامل معها فظهر لديها موقفان:
أ الموقف الأول: الصيد
إن حماس هي مصدر قلق وتهديد للمستوطنات ولا يمكن لمتساكنيها أن يشعروا بالاستقرار والاطمئنان إلا بالتخلص منها والعمل على تصفيتها وإخراجها من جحورها في غزة، ويجب أن يقع لهنية ما وقع لصدام حسين.
وليس من المستبعد أن يكون التخلص من حماس محل اتفاق بين الكيان الصهيوني والعديد من الأنظمة العربية، لكن الخلاف هو أن هذه الأنظمة تريد رأس الأفعى فقط دون الإضرار بالشعب في غزة وفي أقصى سرعة ممكنة قبل أن تتحول المعركة إلى الشارع وهذا ما لا يريده الكيان الصهيوني وقد لا يستطيعه أيضا.
هذا هو الخطاب الذي ساد الحملة الانتخابية وتلك كانت مبررات الحرب لكنه في حقيقة الأمر يُظهر غير ما يضمر، فوجود حماس بعدّتها وعتادها لا تمثل خطرا داهما على الكيان الصهيوني بالرغم من أنها تزعج سكان بعض المستوطنات.
ب الموقف الثاني: حرق الغابة
إن وجود حماس ينفع الكيان الصهيوني أكثر مما يضره، فهو يحقق له هدفين:
على مستوى دولي: حماس فزاعة للإرهاب
هي فزاعة للإرهاب تبرر سياسة الاحتلال والقمع والاستيطان فمن خلال وجودها يقدم الذرائع الكافية للاحتلال والتدخل والاستقواء بالقوى الخارجية وإحكام مراقبة المنطقة والسيطرة عليها. وحتى يقنع العالم بخطر حماس نرى الإعلام الصهيوني يربط ربطا عضويا بين حماس وحزب الله وإيران . فهو يُسوّق حماس كذراع إرهابي للثورة الإسلامية التي تنادي بمحو الكيان الصهيوني من خارطة المنطقة حتى يستدر بها عطف المنتظم الدولي الذي بدأ يتعاطف مع القضية الفلسطينية وهنا نلاحظ أن الدعاية الصهيونية لم تعد تركز على علاقة حزب الله وحماس بالنظام السوري الذي أبدى استعداده للتفاوض وليس له طموح غير استرجاع أرضه ولم يناد بتدمير الكيان الصهيوني بل صارت تؤكد علاقة هاتين المنظمتين بإيران التي تسعى للتحول إلى قوة مركزية في المنطقة مثل الكيان الصهيوني.
على مستوى داخلي كسر إرادة الشعب
يجد الكيان الصهيوني في ضرب حماس فرصة لكسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني في غزة الذي أفرز أجيالا من الفدائيين ولم تكسر شوكته بعدُ، فقد كان مخزن الثورة الفلسطينية منذ 1948 فما دامت الإرادة القتالية موجودة، فإن المقاومة ستتواصل بقطع النظر عن نوعية التنظيم . وبهذا يمكن أن نفسر إصراره على توجيه ضربته المؤلمة للشعب حتى يتمكن من تجفيف المنابع التي تتغذى وترتوي منها حماس وغيرها من المنظمات السابقة واللاحقة، لذا توخى طريقة حرق الغابة بتعلة البحث عن الأفعى.
ومن هنا يتضح أن الفعاليات الصهيونية تعتبر حماس أفعى قاتلة والخلاف يكمن في كيفية التعامل معها، هل نصفّيها أم نروّضها وننزع عنها السموم ونستغلها كفزاعة؟ ومهما كانت نظرة مكونات الطبقة السياسية، فإن الحرب ضرورية للكيان الصهيوني إذ هي توفر له مجموعة من الاحتياجات حددتها الصحافة الصهيونية كما يلي: الأولى تتمثل في حماية المواطنين الإسرائيليين، والثانية هي إعادة ترسيخ قوة إسرائيل الرادعة، والثالثة هي الحفاظ على الدعم الدولي، والرابعة هي بعض الآفاق لسلام دائم، وكل من هذه الأهداف هو الآن في خطر
ثالثا الواقع الإقليمي: سياسة المحاور تهميش للقضية الفلسطينية
منذ هزيمة 1967 تقلصت إن لم أقل انعدمت ثقة الجماهير العربية في قدرة أنظمتها السياسية الرسمية على تحرير فلسطين، فالآمال كانت معقودة على الجيش المصري وقيادة الرئيس عبد الناصر، غير أن الانهيار غير المتوقع لكل جيوش الدول المجاورة أمام الكيان الصهيوني غيرت قناعاتها في أساليب التحرير، واقتنعت بأن أية حرب تقليدية ستكون خاسرة، فالمعسكر الغربي لن يسمح بهزيمة الكيان الصهيوني. ومن هنا أخذت إستراتيجية التحرير تتجه نحو اعتماد حرب التحرير الشعبية.
غير أن أهم عقبة اعترضت سبيل هذا الخيار كانت سياسة المحاور، فالدول العربية التي تشقها الخلافات سعت لنقل خلافاتها إلى ساحة المقاومة منذ البداية، ثم أدرك العرب أنظمة وتنظيمات في أواخر الستينيات وفي بداية السبعينيات خطورة هذه السياسة على القضية الفلسطينية، فعملوا على توفير الحد الأدنى من هامش استقلالية القرار لما في ذلك من نتائج إيجابية أكدت الأحداث فعالياتها ومن أهمها:
أ تغير إستراتيجية المواجهة
فبعد أن كانت المواجهة نزهة حربية يقوم بها جنرالات العدو في الأرض العربية، يقتلون ويدمرون ويعودون ظافرين غانمين تعلو رؤوسهم أكاليل النصر، حولت المقاومة الشعبية المعركة إلى عقر ديارهم، داخل كيانهم في مدنهم ومستوطناتهم وخلقت نوعا من توازن الرعب مما اضطر الصهاينة إلى الاعتراف بالمقاومة والتفاوض معها مما أفضى إلى اتفاقيات أوسلو وهي اتفاقيات ولا شك دون تضحيات الشعب الفلسطيني،. غير أن هذا القصور أو التقصير يعود أساسا إلى الأنظمة العربية التي حرمت المقاومة حتى من مجرد التواجد على أرضها وحولتها من الخنادق في دول الجوار إلى الفنادق على ضفاف المتوسط في تونس.
ب إثبات الوجود
إن وجود منظمة فلسطينية مستقلة للمقاومة أثبت للعالم أن الشعب الفلسطيني مازال موجودا على الساحة الدولية، ومازال محتفظا بهويته، وهو يطمح إلى استعادة أرضه واسترجاع سيادة وطنه رغم الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية لمحو شخصيته.
ج استقلالية المنظمة إثراء لنضالها
إن انخراط المنظمة الفلسطينية في أي محور من التكتلات العربية والإقليمية سيجعلها مستهدفة من الأطراف الأخرى، وسينعكس ذلك على فضاءات تجنيد مناضليها وعلى عملياتها وعلى مصادر تمويلها. وقد أخطأ ياسر عرفات خطأ تاريخيا جسيما عندما أعلن في العلن على الأقل انحيازه الكامل لصدام حسين، فدفع الشعب الفلسطيني الثمن مرتين : الأولى عندما أصبح محل نقمة الكويتيين مواطنين وسلطة، والثانية عندما سقط نظام صدام، فقد صارت الجالية الفلسطينية في العراق مشردة ومطاردة وتعيش على الحدود تحت الخيام.
د الاستقلالية لا تلغي جوهر الصراع
إن تأكيد استقلالية منظمة التحرير عن الأنظمة العربية لا يلغي طبيعة الصراع بين العرب والكيان الصهيوني: وهو صراع وجود، صراع عربي صهيوني. غير أن المظلمة تحملها وعاش ويلاتها بالدرجة الأولى الشعب الفلسطيني وهو طليعة النضال العربي.
وعلى هذا الأساس نشأت منظمة التحرير الفلسطينية وانخرطت فيها مجمل الفصائل وخاضت مجمل معاركها وبهذا التوجه أمكن لها أن تسجل حضورها على الساحة الدولية وأن تحوّل الشعب الفلسطيني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وأن تكون طرفا في الحوار الذي يجري حول القضية الفلسطينية والذي انتهى بمعاهدة أوسلو التي لم تكن محل رضا كل حركات المقاومة والشعب الفلسطيني والجماهير العربية، وهذا ما شجع على بروز حركات مقاومة أكثر تجذرا، و ضخّ فيها دما جديدا وفتح أمام الشعب الفلسطيني آفاقا أرحب للنضال فمنح ثقته لحماس.
وفي خط مواز لتصاعد المقاومة فإن مسلسل انهيار النظام العربي لم يتوقف عند عجزه عن التحرير بل ازداد انهيارا مع السبعينيات والثمانينيات، فقد أعلن النظام المصري أن حرب 1973 هي آخر الحروب التي تخوضها مصر مع الكيان الصهيوني ووقّّعت معه معاهدة مخيم داود ، ثم أتت الحرب الإيرانية العراقية التي تواصلت لمدة ثماني سنوات وأعقبه إسهام الأنظمة العربية في مواجهة النظام العراقي لتحرير الكويت1990 وتلاها غزو الأمريكان للعراق سنة 2003 بذلك صار النظام العربي مشلولا، وأبرز تجلّ لهذا الشلل هو عجزه حتى على عقد مؤتمر قمة لدعم غزة وبقدر ما كانت ثقة الجماهير العربية في الأنظمة العربية تضعف فإن آمالها في المقاومة ما لبثت تقوى.
غير أن هذه الأنظمة حاولت أن تستعيض عن هذا العجز باحتواء بعض حركات المقاومة وأن تحولها إلى أذرع لها تحركها متى ظهرت الحاجة لاستعراض العضلات حتى فقدت حركات المقاومة استقلالية قرارها السياسي وأصبحت تعمل ضمن استراتيجية لا تتحكم في آلياتها وقد تشوش على أهدافها.
ومما زاد الوضع تعقيدا أن القضية الفلسطينية لدى الساسة العرب ثم لدى الساسة في المنطقة الإسلامية صارت وسيلة وهدفا، فتحرير فلسطين هو الهدف الذي يصبو إليه كل عربي وكل مسلم بل كل حرّ من أحرار العالم أينما كان موقعه، غير أنه وقع استغلالها كوسيلة لاكتساب شعبية لدى الجماهير العربية والإسلامية المتعطشة إلى النصر على الأعداء الذين اغتصبوا الأرض واستغلوا البشر وانتهكوا المقدسات لذلك كانت فلسطين فرس رهان بين كل المتبارين، ويمكن أن نتبين ثلاثة محاور في المنطقة لا اثنين كما يُروّج عادة، ولكل محور رأي خاص في كيفية التعامل مع أطراف القضية:
1 محور الممانعة
ما ان بدأت منظمة التحرير تترهل حتى ظهرت حركات إسلامية وبالتحديد حزب الله وحماس والجهاد التي عُرفت بالتنسيق مع محور دمشق طهران، وهذا ما حشرها في الصراعات السياسية والمذهبية التي تشق المنطقة، فضعفت منظمة التحرير دون أن توفق المنظمات الإسلامية في تأسيس مرجعية بديلة، وفي اعتقادي أنها لا تستطيع ذلك حتى على المدى البعيد فلا خصومها يغفرون لها الارتماء في هذا المحور ولا أنصارها يمنحونها الهامش الذي يتجاوز إستراتيجيتهم.
وقد وقف محور الممانعة وبالتحديد إيران وسوريا ثم قطر إلى جانب حماس، وهذا ما جعلها تذهب في الشوط إلى أبعد مداه، فأخذ الغرور ممثلها خالد مشعل وصار ينادي بإحداث مرجعية جديدة بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية تقوم على الفصائل الإسلامية وكذلك على الفصائل الفلسطينية التي تدور في الفلك السوري وقد استفزت هذه المبادرة كل مكونات منظمة التحرير فرفضتها ونادت إلى إعادة هيكلة المنظمة التاريخية.
ومن الأكيد أن دعم إيران وسوريا لحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي لبنان ينبع من موقف مبدئي لا يمكن إنكاره على هذين النظامين، ولكن في نفس الوقت يتماشى مع أوضاعهما وأهدافهما وبالتالي مع مصالحهما، فسوريا تسعى لأن تبقى ماسكة بفتيل الحريق من خلال حركات المقاومة المسلحة، فهي أذرعها الممتدة على الساحة العربية، فليس من مصلحتها أن تُبرم أيةُ معاهدة سلام ما لم يكن الحل شاملا بما فيه استرجاع هضبة الجولان.
أما إيران فإنها تخطط للتحول لأكبر قوة فاعلة في المنطقة، وهذا ما لا يسمح به الكيان الصهيوني، وهي تدرك أنه ينتظر الفرصة المناسبة ليوجه لها ضربة مدمرة، ولذا فإنها تريد أن يكون لها أذرعا تكون على مرمى حجر منه تهدد هذا الكيان. وقد نجحت في ترسيخ أقدام حزب الله في الجنوب اللبناني. الدور نفسه تريد أن تقوم به منظمة حماس.
فمن مصلحة إيران والمجموعة الحاكمة أن يبقى الوضع متوترا، فعلى مستوى الداخل فالقضية الفلسطينية تدعم شعبية النظام ، كما أن التهاب الوضع في المنطقة سيلفت الانتباه لدورها كرجل مطافئ. وهذا ما ستستفيد منه في المفاوضات المحتملة مع الغرب كما استفادت من توتر الوضع في العراق، فهدفها هو التحول إلى أكبر قوة إقليمية مركزية في المنطقة ولتحقيق هذا الغرض ساعدت الولايات المتحدة في التخلص من نظام صدام حسين في العراق ومن نظام طالبان في أفغانستان.
غير أن الدور الإيراني لم يثر مخاوف الكيان الصهيوني فحسب بل إن مجمل الدول العربية السنية بما في ذلك دول المغرب العربي التي ليس بها أقليات شيعية أخذت تتوجس منه خيفة وتضيّق الخناق على كل من له صلة بإيران.
وبقدر ما تراجع دعم الأنظمة العربية للمقاومة الإسلامية التي يعتبرها الغرب متطرفة فإن إيران وتركيا دافعتا عن شرعية وجود حماس حتى في المحافل الدولية.
ومهما كان هذا الدور ضروريا ومفيدا، فإنه لا يمكن أن يكون بديلا عن الدور العربي الذي يتنزل ضمن الدفاع عن الوجود.
2 محور دول الاعتدال
يضم كل من مصر والسعودية والأردن ومعظم دول الخليج ،وهي مقتنعة على غرار منظمة فتح بأن الأوضاع العالمية لا تسمح بمواصلة الكفاح المسلح وأن الأفضل هو الانخراط في العملية السلمية من خلال عمليات التفاوض والاستناد إلى الشرعية الدولية، وقد دعم هذا المحور موقفه بمبادرة الملك عبد الله التي وافقت عليها قمة بيروت سنة2002 والتي تربط اعترافها بالكيان الصهيوني بقيام دولة فلسطينية. وقد صارت هذه الوثيقة تحظى بدعم القوى الكبرى التي صارت مقتنعة بحق الفلسطينيين في إنشاء دولة مستقلة في كل من غزة والضفة الغربية ومن الطبيعي أن يقف هذا المحور ضد حماس التي تنادي بالكفاح المسلح.
إن دول هذا المحور تشعر بأهميتها الإستراتيجية المالية أو السياسية لكنها تدرك أنها غير قادرة على حماية وجودها، فهي تخشى قدرة إيران التعبوية التي تمكنها من تصدير الثورة عبر الطائفة الشيعية ومن خلال إشعاعها الثوري الذي اكتسبته بتحديها للصهيونية والإمبريالية ودعمها لحزب الله وحماس وصمودها أمام العقوبات الاقتصادية.
وإذا تطور الصراع بينها وبين إيران وبلغ حد التصادم فليس من المستبعد أن يتحول الكيان الصهيوني من عدو تستهدفه كل دول المنطقة إلى حليف غير مباشر في الصراع الإقليمي، وقد يُستنجد به في المستقبل المنظور لحسم هذه الصراعات، كما وقع الاستنجاد بالأمريكان لإخراج الجيوش العراقية من الكويت. إذاك تختلط الأوراق ولا نعرف أين التناقضات الرئيسية وأين التناقضات الثانوية، وبذلك تختفي القضية الفلسطينية في خضم الصراعات الإقليمية العقيمة.
ولتوفير هذه الحماية ستكون الدول النفطية مجبرة على المساهمة في التخفيف من حدة الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي بما في ذلك شراء الأسلحة ووضع ودائعها على ذمة البنوك الأمريكية والأوربية، عوض أن تستثمرها في نموها وفي مواجهة الأعداء الذين يستهدفون وجود الأمة، أما الدول التي لا تتوفر فيها هذه الثروات فستكون مضطرة لأن تلعب أدوارا سياسية غير مشرفة لحركة التحرر في الوطن العربي وعلى حساب قضيتها المركزية . فالهمّ الأول لدول هذا المحور هو حماية وجود أنظمتها، وفي هذا الإطار يمكن أن ننزل قولة الرئيس مبارك «مصر أولا ومصر أخيرا».
3 محور دول المجاملات
يضم في تقديري دول المغرب العربي وغيرها من الدول العربية. إن هذه الدول تساند القضية الفلسطينية لاعتبارات أخوية ومبدئية وإنسانية لكن دون التورط في معاداة الصهيونية والقوى الداعمة لها، فهي لا ترغب في مجابهة الأوساط المالية والإعلامية والسياسية المساندة للكيان الصهيوني التي تتحكم في المؤسسات الدولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي وفي التجارة العالمية، فهي تعطي الأهمية الأولى للتنمية المحلية.
فهذه المحاور الإقليمية الثلاثة لا يمكن لأي منها أن يشكل عمقا استراتيجيا لمعركة التحرر حتى ولو كانت بأساليب سلمية لأنها سوف لن تخلو من المزايدة والمناقصة.
والنتيجة المباشرة الأولى لهذه السياسة المحورية هي تهميش القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية مركزية في صراع وجودي إلى قضية ثانوية أو قد تهمل مرة واحدة.
رابعا الوضع الدولي
تميز الوضع العالمي بالتوتر في عدة مناطق ، فالصراع في القوقاز بين روسيا وجورجيا لم تهدأ ناره بعد،وكوريا الشمالية ما زالت لم ترفع الراية البيضاء رغم قبولها بالتهدئة، والمقاومة الشعبية في العراق ما زالت تسدد ضربات موجعة للجيش الأمريكي ولتوابعه ، والحروب الأهلية في إفريقيا لا تخبو نارها في ركن إلا لتلتهب في ركن آخر، والأزمة المالية العالمية تستفحل يوما بعد يوم.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن الإدارة الأمريكية الشرطي العالمي أو رجل المطافئ كان شبه مشلول، فبوش كان يحزم حقائبه استعدادا للرحيل عن البيت الأبيض أما أوباما فهو يتحفز ليسجل حضور رجل أسود في البيت الأبيض لأول مرة في التاريخ ، ومعنى كل ذلك أن الرأي العام العالمي كان مشغولا، وهذا ما يفسح المجال لكل اللصوص والمجرمين بالتسلل للبيوت الآمنة لنهبها وتدميرها في غفلة عن العالم، وهو ما جسده العدوان على غزة.
هذه الفترة الحرجة التي غفلت عنها حماس استغلتها بخبث الحكومة الصهيونية وكثفت هجومها على مواطني غزة وصبّت عليهم الغازات الحارقة ولم تجد أي رادع من المجتمع الدولي، فالدول العظمى مقتنعة بأن الكيان الصهيوني في حالة دفاع عن النفس لكن تأبى الصدف إلا أن يتدخل أوباما ليوقف المجزرة لأنه يريد أن تكون كل الأضواء الكاشفة مسلطة على الحفل التاريخي الذي يتولى فيه لأول مرة في تاريخ الإنسانية مواطن هجين رئاسة أكبر دولة في العالم، وكما قال هيكل:إنه لا يرغب في أن تكون هذه اللوحة الجميلة ملطخة بالدماء.
وباختصار شديد فإن حماس عندما أقدمت على المواجهة مع الكيان الصهيوني لم تأخذ بعين الاعتبار الحد الأدنى من الشروط الموضوعية لا على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي، تلك هي الظروف الحافة بالعدوان على غزة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.