الباخرة الحبيب التي كانت تربط بين جزيرة قرقنةوصفاقس وتؤمن عدة رحلات يومية بينهما لنقل المسافرين كانت على ملك شركة إحياء جزر قرقنة (السومفيك) ولم تكن شركة احياء جزر قرقنة ملكا للاتحاد العام التونسي للشغل وكان يترأسها الحبيب عاشور الذي أسسها وبنى لها نزلا يقع في الشاطئ الشمالي لجزيرة قرقنة اطلق عليه اسم الفندق الكبير وكانت أكبر المساهمين في الشركة هي بلدية تونس العاصمة مع العلم أنّ الحبيب عاشور يشرف على الشركة دون اي مقابل مالي. احترقت الباخرة يوم 7 جوان 65 صباحا عندما كانت في طريقها الى صفاقس وكانت حاملة لعديد المسافرين مما نجم عن الحريق وفاة ستة اشخاص اغلبهم من السواح الاجانب. حينها كان الحبيب عاشور موجودا في جينيف كل سنة صحبة وفد من اعضاء المكتب التفيذي منذ بداية الشهر لحضور اشغال الدورة السنوية التي يعقدها المكتب الدولي للشغل وتدوم الدورة شهرا كاملا وقد تمّ إعلام الحبيب عاشور باحتراق الباخرة وبمجرد أن علم رابح محفوظ عضو المكتب التنفيذي ومساعد الحبيب عاشور باحتراق الباخرة حتى توجه مباشرة الى صفاقس وطلب مني هاتفيا ان اتصل باحد المحامين المتخصصين في القانون البحري واخترتُ وقتها روجي خياط المتخصص في التأمين البحري الذي توجهت صحبته الى صفاقس. اما الحبيب عاشور فقد روى في مذكراته انه لما ارسلت اليه البرقية من الاتحاد العام لإعلامه بتفاصيل الحريق رجع الى تونس حيث وجد برقية من شركة التأمين الالمانية تعلمه فيها انها ملتزمة من بتأمين الحادث الحاصل للباخرة المحترقة وأنها مستعدّة للتعويضات اللازمة سواء بالنسبة للاضرار المادية أو الاضرار البدنية. حمل الحبيب عاشور هذه البرقية الى الحبيب بورقيبة ظنا منه أن هذا التعهد بجبر الاضرار من طرف شركة التأمين الالمانية ستنهي الموضوع الا ان الحبيب بورقيبة أرجع له البرقية قائلا له (العدالة ستأخذ مجراها) وفهم الحبيب عاشور من ذلك ان الغاية هي استهدافه وان هذا الحادث سيُستغلّ لوضعه بالسجن. كانت النية لدى السلطة متجهة في بادئ الامر الى محاكمة الحبيب عاشور شخصيا من اجل حادث احتراق الباخرة ولو كان ذلك غير مقبول قانونيا ومنطقيا إلا أن الاحداث التي تلت ذلك جعلت السلطة تعدل عن ذلك اذ انها وجدت في العناصر الجديدة التي توفرت لديها مصداقية اكثر في توجيه تهم كافية في نظرها لتبرير وضعه في السجن حتى يتمّ إحلال قيادة جديدة محله على رأس الاتحاد. والتحق الحبيب عاشور بصفاقس حيث وجد رابح محفوظ والمحامي روجي خياط وأنا بنزل الزيتونة الليلة الفاصلة بين 7 جوان ويوم 8 جوان 1965 وفي هذا المستوى أعود لوثيقة قدّمت ضمن ملف رفع الحصانة عن الحبيب عاشور الذي سلم لكل النواب بمجلس الامة وهي مراسلة محافظ الشرطة بصفاقس. فقد جاء برسالة مؤرخة في 11 جوان 65 موجهة من محافظ الشرطة رئيس منطقة صفاقس الى حاكم التحقيق احمد شراقة جوابا على ملحوظاتكم المؤرخة في 9 جوان الجاري لي الشرف بإعلامكم بما يلي: إن شركة احياء جزر قرقنة لها باخرة تدعى (الحبيب) وباخرة تدعى (فرحات) وقارب معبّر عنه (بلود) كلها غير مؤمنة تأمينا قانونيا في الوقت الحاضر غير انه توجد عقدة تأمين (مع الاتحاد) تعاضدية التأمين تحمي عملة باخرتي (الحبيب) و(فرحات) ضد حوادث الشغل فقط. أمّا (اللّود) الثالث الذي يحمل تارة الركاب من صفاقس إلى قرقنة فهو غير مؤمن ولا عملته والجدير بالملاحظة ان حسب الارشادات المتحصل عليها من مصادر مطلعة تكون باخرة الحبيب غير مؤمنة في تاريخ الحادث اي يوم 7 جوان هذا وان الشركة المتعامل معها في جميع عمليات التأمين هي تعاضدية التأمين الإتحاد بتونس والمدير الرئيس العام هو السيد الحبيب عاشور والمساعدان هما السيدان: رابح محفوظ وعبد العزيز بوراوي اما المدير المباشر فهو المدعو فخر الدين الكاتب. وفي خصوص هذا الاخير فإنه قدم الى صفاقس صحبة (كاهياس بيار) نائب شركة اعادة التأمين وذلك حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال يوم 7 جوان الجاري وفور وصوله وكان يرافقه دائما الاجنبي المذكور في جميع تنقلاته اتجه الى الباخرة موضوع قضية الحريق الذي وجد قربها السيد صالح صدوقة (مدير البحرية التجارية) فتحادث معه ثم توجه الى مقر الولاية حيث كان هناك السادة كتاب الدولة احمد نور الدين وفتحي زهير وعبد المجيد شاكر ومعهم السيد الطيب السحباني ثم انتقل بعد ذلك الى المستشفى الجهوي اين تحادث مع رابح محفوظ وعدة أناس آخرين وحوالي الساعة السادسة مساء تحول الى مقر شركة احياء جزر قرقنة فوجد هناك رابح محفوظ وبقي حتى الساعة الثامنة والنصف، ثم مباشرة توجه ودائما صحبة كهياس الى نزل الزيتونة حيث وجد المحامي روجي خياط يتناول طعام العشاء صحبة زميله المحامي منصور الشفي وقد قدما الى صفاقس للدفاع على شركة إحياء جزر قرقنة فتناولوا العشاء مع بعضهم ثم مكثوا بالنزل حتى الساعة العاشرة والنصف وقد انضم اليهم كل من رابح محفوظ والحبيب عاشور الذي قدم من جنيف لما بلغه نبأ الحريق وقد توجه هذا الاخير الى مقرّ الولاية. 8 جوان 65: رجعت الى تونس رفقة رابح محفوظ وبقي الحبيب عاشور بصفاقس مع فخر الدين الكاتب على ان يقوما بإجراء اختبار على السفينة المحترقة وطلب الحبيب عاشور لذلك الوالي محرز بن الامين الذي لم يمكنه من طلبه. كما تم الاتفاق يومها بين الحبيب عاشور وفخر الدين الكاتب على تحرير عقد تأمين للباخرة المحترقة جعل له تاريخ سابق بيومين واعتبر ذلك فيما بعد من طرف حاكم التحقيق ان ذلك من بين مثبتات التدليس وطلب الحبيب عاشور من رابح عطية ان يسلّم شيكا به مقدار اربعة الاف دينار لفخر الدين الكاتب مقابل بوليسة التأمين لكن هذا الشيك حجز على فخر الدين الكاتب في نفس اليوم من طرف حاكم التحقيق وكان ذلك منطلقا لقضية شيك دون رصيد وكان ذلك امرا غريبا لأنه لم يقع عرض الشيك على البنك للخلاص ورفضه حتى تستقيم جريمة الشيك دون رصيد. وفي اليوم نفسه اي يوم 8 جوان 65 علم الحبيب عاشور ان حاكم التحقيق أحمد شراقة قد قدم الى مقر شركة إحياء جزر قرقنة وذلك لاجراء تفتيش بمكاتب الشركة فالتحق به اين وجده يطالب مدير الشركة رابح عطية بتسليمه أوراق تخص الشركة. ولما خاطب الحبيب عاشور مدير الشركة بالقول: (إعط لها السيد الاوراق التي يطلبها على ان يسلمنا وصلا فيها) اعتبرت كلمة (ها السيد) كلاما جارحا للسيد حاكم التحقيق ووجهت له اثرها تهمة (هضم جانب موظف اثناء تأديته لوظيفته) وأصبحت بالتالي موضوع محاكمة لاحقة. وفي نهاية اليوم غادر الحبيب عاشور صفاقس ليلتحق من جديد بأعمال الدورة السنوية للمكتب الدولي للشغل بجينيف. وبتاريخ 11 جوان 65 نشرت وكالة الأنباء الرسمية بلاغا جاء فيه: (أصدرت الحكومة التعليمات اللاّزمة للقيام ببحث إداري وعدلي يستهدف معرفة الاسباب التي انجرّ عنها الحادث الأليم الذي تعرضت له الباخرة (الحبيب) بعرض مياه صفاقس يوم الاثنين 7 جوان الجاري ويرمي ايضا الى استقصاء الظروف كافة التي تحوم حول هذا الحادث، وقد تعهدت المحاكم العدلية بهذه القضية وتم الى حد الان إيقاف السيد رابح عطية مدير شركة إحياء جزر قرقنة كا أدّى البحث الى العثور على مخالفات قانونية تتعلق بتأمين الباخرة المتضررة مما ادى الى إيقاف السيد فخر الدين الكاتب مدير تعاضدية التأمين التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل وإيقاف المسمّى بيار كهياص اليوناني الجنسية ومدير شركة لإعادة التأمين. واعطت الحكومة تعليماتها الى السلط المعنية حتى تواصل الابحاث في النطاقين العدلي والاداري بكل حزم وتوضح المسؤوليات وتنار جميع الجوانب المحيطة بالموضوع. وعلمنا فيما بعد انه إثر الحادث مباشرة اي في نفس يوم وقوع الحادث (7 جوان 65) قرّر الحبيب بورقيبة ان تجرى محاكمة الحبيب عاشور بصفاقس فطلب من محمد فرحات الوكيل العام للجمهورية بأن يتابع الموضوع ليشرف بنفسه على تسيير القضية وفي نفس اليوم اصدر محمد فرحات تعليماته لوكيل الجمهورية بصفاقس بأن يطلب من القضاء التحرك بسرعة وشدّة وأن يطلب فتح أبحاث في الموضوع ويعهد بالقضية لحاكم تحقيق ووقع الاختيار على حاكم التحقيق احمد شراقة الذي لم يخيّب ظنّهم وبدأ عمله بإستنطاق فخر الدين الكاتب مُصدرا بطاقة إيداع ضدّه، وكانت التهمة الموجهة لفخر الدين هي فقط جريمة التدليس لأنه قام بإمضاء عقد تأمين مكذوب حسب زعمهم بين شركة التأمين الاتحاد التي يديرها وبين شركة إحياء جزر قرقنة. اما التهم الاخرى كجريمة الشيك دون رصيد وغيرها فقد أضيفت فيما بعد. وكما سبق ذكره فإن الحبيب عاشور وبعد ان غادر صفاقس يوم 8 جوان التحق بندوة المكتب الدولي للشغل بجينيف حيث التحق بأحمد التليلي الذي كان هناك ضمن وفد الاتحاد، وقد قاما بإعلام السيزل بما يدبّر للحبيب عاشور. أمّا في تونس فإن محمد فرحات الوكيل العام للجمهورية أعدّ ملف رفع الحصانة عن الحبيب عاشور الذي كان عضوا بالبرلمان، وأحيل هذا الملف على وزير العدل الهادي خفشة الذي قدّم طلبا لرئيس مجلس النواب في الغرض. وتلقى الحبيب عاشور وهو في جينيف وفي أواخر شهر جوان إعلاما بوجوب الحضور بمجلس النواب الذي سيتداول في رفع الحصانة عنه. ويوم جلسة رفع الحصانة خاض الحبيب عاشور صحبة صديقه أحمد التليلي معركة حامية الوطيس قام فيها أحمد التليلي بأخذ الكلمة سبعة عشرة مرّة، وحاولا إقناع مجلس النوّاب بالخلفيات التي تقف وراء التهمة المفتعلة لإستيلاء السلطة على المنظمة، وما كانا ليستطيعا إقناع اعضاء مجلس كان الفضل في وجودهم هناك للحبيب بورقيبة. وأسفر التصويت عن أن ثلاثة من النواب فقط ضدّ رفع الحصانة وهم: أحمد التليلي ورابح محفوظ وعبد العزيز بوراوي والبقية الباقية مع رفعها. ومن الغد تلقى الحبيب عاشور استدعاء للحضور لدى حاكم التحقيق بصفاقس يوم 1 جويلية 1965 فخاطبني بالهاتف واتفقنا على أن أتوجه معه الى صفاقس بعد ظهر يوم 30 جوان، أي بعد أن يحضر هو والتليلي جنازة الطيب المهيري الذي دفن بالجلاز وأبّنه الرئيس بورقيبة. وعندما كنا في طريقنا الى صفاقس كان أحمد التليلي في طريقه الى أوروبا والذي بمجرد ان بلغها حتى أدلى بتصريح ندّد فيه بما يحاك للاتحاد العام التونسي للشغل وامينه العام الحبيب عاشور. ومن الغد بدأ التحقيق مع الحبيب عاشور بحضوري وحضور الاستاذ محمد بلّونة وهو من أشهر المحامين وأقدرهم، وكان قد كلّفه أحمد التليلي قبل سفره بالدفاع عن الحبيب عاشور. لقد كان الحبيب عاشور مستعدا كأحسن ما يكون للمواجهة فقد كان مقتنعا مسبقا بأنه سيسجن ولذلك سلّم لاحمد التليلي توكيلا يخوّله الحضور باسم المنظمة الشغلية في المؤتمر الذي سينعقد في هولندا لاختيار امين عام لمنظمة السيزل. وكان النوري البودالي الذي وقع الاختيار عليه ليتولى منصب الامين العام للاتحاد مؤقتا هو الذي قاد الوفد الذي يمثل الاتحاد المتركب من محمود بن عزالدين والحبيب بن ميلاد الذي كان كاتبا عاما للاتحاد الجهوي للشغل بتونس العاصمة. وعلمنا فيما بعد ان أحمد التليلي قدم ترشحه للأمانة العامة وكانت نيجيريا هي التي رشحته ليتنافس مع اومير بيكي البلجيكي الجنسية، وكان هذا الترشح قد القى بظلاله على العلاقة بين الرجلين. لقد كان ترشح أحمد التليلي مدعوما من طرف جورج ميني زعيم النقابات الأمريكية وممثلها بأوروبا إيرفينغ براون. وعند التصويت وقف الوفد التونسي ليؤيد عمر بيكي ضدّ أحمد التليلي وأسفرت النتيجة عن فشل أحمد التليلي. وكان الحبيب عاشور في نفس الوقت نائبا لرئيس السيزل، وكان من المتوقع ان تقف المنظمة معه الى حدّ القطيعة مع الإتحاد التونسي للشغل لكن السيزل اختارت الابقاء على عضوية الاتحاد العام مهما كانت القيادة التي تتولى تسييره وبقطع النظر عن مدى استقلاليتها.