... حتّى لما تدخل الشرطي ووفّر للحريف سيارة ثالثة نقلته إلى حيث يريد، فإنّ الخصومة لم تتوقف، بل زادت حدّة، بما انّ كل طرف ازداد اصرارا على موقفه. وبالطبع انتصر فريق الطرف وانتصر آخر للثاني. ولم يسلم الشرطي من النقد، حيث لم يرتح الطرفان للحل الذي فرضه لتجاوز الاشكال... بل إنّ أحد الطرفين ذهب الى حد اتّهامه بمحاباة الطرف الثالث. كان ذلك في محطة سيارات التاكسي بالمطار حيث مازالت سائدة تلك الفوضى التي اختص بها سائقو سيارات التاكسي العاملون على خطّ المطار وذلك رغم مجهودات كبيرة بذلتها الجهات المعنية لتنظيم عملية الوقوف والتداول على خدمة الحرفاء. ولشدّ ما آلمتني قبل أيام مناوشة حصلت بين سائقين من أجل الفوز بحريف بدا لهما «سمينا»، فأراد كلّ منهما الظفر به، حجّة الأول أنّ الحريف من نصيبه لأن الدور دوره فيما كانت حجّة الثاني أنّه «حجز» الحريف حال خروجه من أحد أبواب المطار. وظلّ السائقان يتبادلان السباب والشتائم أمام الحريف وهو ضيف عربي، فتركهما وذهب يبحث عن سائق ثالث، لكن أنّى له أن يحصل على ذلك فقد رفض صاحب الدور ان يتنازل عن حقّه فبقيت المشكلة قائمة. كنت مارّا من هناك بالصدفة حيث لفت انتباهي صراخ السائقين وتجاذبهما لحقائب الحريف، بل وللحريف نفسه حتى أنّه كاد يسقط في احدى المرّات، توقفت للحظات، فإذا بالضيف يردد: أنا السبب، أنا السبب؟ حاولت أن أتدخل لكنني تراجعت بسرعة لقناعتي أن لا أحد من المتخاصمين مستعدّ لكي يسمعني، بل وكيف يسمعني أنا عابر السبيل في حين لم يسمع زملاءه الذين كانوا يحاولون تهدئة الخواطر وحل الاشكال بالحسنى، ثم إنني صراحة خفت ان ينالني بعض ما ناله غيري لما همّ بالتدخل بالحسنى في خلاف بين طرفين. فالذي يحصل في مثل هذه الحالات أنّ كلا الطرفين يحسب المتدخّل عدوّا له، جاء لنصرة خصمه، فيترك الخصم وينهال على المتدخّل... لكن لما سمعت الاخ العربي يردّد بلهجته الخصوصية «أنا السبب، أنا السبب» استدرت إليه محاولا أن أفهم الحكاية لذلك وإجابة على تساؤلي، قال لي: يا أخي، أنا لا أعرف البلد، أحببت أن لا أزعج أحدا لأدعوّه لانتظاري ونقلي على سيارته. لما خرجت، سألت أوّل مواطن صادفت: أين سيارات التاكسي؟ فأخذني إلى هنا، لكن تبيّن أنّه هو نفسه سائق سيارة، وما ان همّ بوضع حقائبي في الصندوق حتى انقضّ عليه زميله، واندلعت بينهما الخصومة التي ترى. لذلك فأنا السبب، فلو عوّلت على نفسي وبحثت عن الاشارة الدالة على التاكسي، لما حصل الذي حصل». لم يكمل الضيف حديثه حتى حلّ بيننا شرطي يعمل هناك ودعاه الى ركوب سيارة كان أذن لها بالتوقف قريبا منه، وزاد الشرطي فاعتذر للضيف عمّا صدر من السائقين. تركت الجمع ودخلت إلى البهو الذي ما ان تلجه حتى تصدمك برودة مرتفعة بفعل المكيفات القوية العاملة. تنظرهنا وهناك، تتمشى، تحاول البحث عن مكان لتجلس، تقرأ جدول الطائرات القادمة، تتفرس الوجوه، تعجب بجمال امرأة ما إن تركّز النظر عليها حتى يمرّ أمامك جدار يفصل بينكما، تمثل أمامك أخرى، لا تعجبك، تصرّ على لفت انتباهك بدعوى انقاذك من الشرود الذي تبدو عليه، لكنّك تشيح بناظريك عنها، وهكذا. تتوقف أمام المصارف وتحديدا أمام لوحة أسعار العملة وتدقّق النظر، وترهق نفسك في عمليات حسابية لا تتفق اطلاقا مع نفس العملية التي يجريها موظف المصرف وطلبت منه الخدمة. وهكذا تقريبا أو أقلّ بقليل توالت شردتي إلى أن عثرت على محل صغير من نوع تلك المحلات الرائجة في المطارات، جميل، نظيف، مطلي بالازرق، داخله موظفة أنيقة، وعلى واجهاته كتبت عبارة «نقل عمومي مشترك». وفيما كان المحلان القريبان منه يعجّان بالخلق، كيف لا وهما مختصان في بيع الهواتف الجوّالة والشرائح الخاصة بها، كان محلّ «النقل العمومي المشترك» مقفرا، فارغا إلا من تلك الموظفة الأنيقة أو من عابر سبيل يسأل عن موعد وصول الطائرة الفلانية. عادت الى ذهني حادثة محطة التاكسي وخاصة قولة الضيف العربي أنّه لم يجد أو لم ير الاشارة الدالة على وجود التاكسي. أطلت النظر الى المحل او إلى «البوكس» في اللغة الاعجمية الرائجة هناك وفي كل مطارات العالم، محاولا إحصاء عدد الذين يقصدونه لطلب الخدمة التي يقدمها. نحو ربع ساعة مرت دون ان يحصل شيء، الامر الذي دفعني لأسال موظفتنا الانيقة عن دورها وبالأحرى عن دور «البوكس». أجابتني بفرنسية باريسية «نقل عمومي مشترك» فلما طلبت مزيدا من التوضيح أضافت وكأنها تلومني على قلة الفهم السريع «Cars et taxis»، زدت في طلب الاستيضاح فسألتها عن الاتجاهات وعن النوعية وعن الملكية وعن الحجم. أجابتني هذه المرّة بالتونسي: «عندنا كلّ الاتجاهات، كيران كليماتيزي، تاكسيات صغار وران تاكسي». شكرتها وانصرفت رغم حاجتي إلى مزيد من التوضيحات، ومنها سؤال عن «العمومي المشترك»، ماهو، فمن يعطني جوابا دقيقا عنه؟ بل اسألوا قريبا منكم من عنده جواب شاف لهذا السؤال؟ قد نفهم من العبارة أنّ الامر يتعلق بناقل أو شركة على ملك الدولة بما انّها عمومية تقوم بالنّقل الجماعي (وهذا المقصود بالمشترك في رأيي) على غرار ما نعلمه عن الشركة الوطنية للنقل بين المدن وغيرها من الشركات الجهوية او شركة نقل تونس لكن لا نتصور أن نفس العبارة يمكن أن تنطبق كاملة على «شركة النقل المريح» مثلا أو شركة النقل الحضري والجهوي او شركة النقل الحضري بتونس. صحيح هي تقوم بالنقل الجماعي للاشخاص لكنها ليست عمومية. كذلك الامر بالنسبة للتاكسي الفردي، فأين العمومية فيه وأين المشترك أو الجماعي؟ لست بحاجة هنا الى التذكير بأصل العبارة ولا بالنظام الاقتصادي الذي ابتدعها، أيام كانت الدولة هي الكلّ في الكلّ، لكنني أسأل عن عديد الذين يفهمون القصد منها اليوم ولا سيما إذا كانوا من إخوتنا الخليجيين، وحتى من بقية الجنسيات. لقد اختصرت المسألة عالميا في كلمتين تنطقان بنفس الشكل في جميع لغات العالم ألا وهما «تاكسي» أو «طاكسي» (TAXI) وباص (BUS) وليس (CAR ) واتفق في العالم أجمع تقريبا على أن تقع الاشارة الى هذين المرفقين (كما قال ضيفنا العربي) بمربّع أصفر تكتب عليه بالاسود وحسب الحالة كلمة (TAXI) أو كلمة (BUS) ويعلّق في مكان بارز للعيان بحيث يقفز مباشرة الى ناظر الباحث عن أحدهما. وكما أتمنّى على الاصدقاء في ديوان المطارات أن يسارعوا بمعالجة هذه المسألة وتيسير الأمور على عدد كبير من الزائرين الذين كم نحن في أمسّ الحاجة إليهم. وكم أتمنّى أيضا، على غرار ما شاهدته في مطارات أخرى، أن يتولى ذلك «البوكس» توجيه الحريف مباشرة الى السيارة التي يجب أن يركبها، دون تدخّل من سائقها أو غيره من الوسطاء او ما يسميه أهل المهنة «بالفلاّة»، وبذلك نقدّم للزائر أفضل صورة عنّا من حيث حسن الاستقبال وكرم الضيافة والمعاملة الراقية، فسائق التاكسي هو أول تونسي يلتقيه الزائر بعد خروجه من المطار.