منذ سنتين كتبت مقالا بجريدة الشعب بعنوان «من قمّودة التاريخ إلى سيدي بوزيد الجديد» أشرت من خلاله الى تاريخ قمودة وأعلامها وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية كما تناولت الدور الريادي لسيدي بوزيد في مقاومة الاستعمار الفرنسي وتوقفت بالأساس عند إشكاليات التنمية والتشغيل بالجهة. اليوم أعود للكتابة في نفس الغرض وأقول بداية: إنّ الدولة قد اتجهت منذ بداية الإستقلال الى المناطق الساحلية لأنّ هذه المناطق تتبأ المكانة الأولى على المستوى الاقتصادي وتقوم بالدور الرئيسي في مجال التصدير والتوريد وتوفير العملة الصعبة والمساهمة بالنسبة الأعلى من الموارد الجبائية.. إلى جانب ما تمتلكه هذه الجهات من بنية تحتيّة هامة تساعد على الحد من كلفة الإنتاج وتوفر مجالات للإستثمار والتشغيل، فنمت هذه المناطق بوتيرة سريعة ممّا زاد في تعميق الهوّة بينها وبين الجهات الداخليّة التي افتقرت وتفتقر الى بنية تحتيّة متطوّرة.. ممّا يجعل كلفة الإنتاج في هذه الجهات مرتفعة تنفّر المستثمرين ولا تشجعهم على الانتصاب رغم التشريعات والتسهيلات والامتيازات الحكوميّة لفائدة كل من يغامر ببعث مشاريع بهذه الجهات. انّ الدولة في ظلّ التحوّلات الاقتصادية الجديدة لم تعد اللاعب الرئيسي في المسألة الاقتصادية وفي التشغيل، فسياساتها العامة في مجال النهوض بالتشغيل ورفع نسق التنميّة اتجهت إلى: تفعيل دور القطاع الخاص وتعزيز التشغيل الذاتي وتفعيل دور الجهة في دعم برامج التشغيل وبعث المشاريع وجلب الاستثمارات. غير أنّنا في سيدي بوزيد لم نفهم أو لا نريد أن نفهم، ونتملص من كل مسؤوليّة فنوكل للدولة وحدها تحديد مصيرنا فهي وحدها المعنيّة بالتشغيل وإعادة توزيع الثروات وتعديل النشاط الاقتصادي والتوزيع الجغرافي للإستثمار والحال أنّ الدور التنموي للدولة أصبح يقتصر على برامج التنميّة الجهوية وهي برامج صغيرة لا تقدر على تغيير ملامح الجهة ولا تقدر على التقليص من اعداد طالبي الشغل وخصوصا أصحاب الشهائد العليا كما أنّ هذه البرامج لا ترتقي الى مستوى يؤثر ايجابيا في الدورة الاقتصادية وينمي الطلب الداخلي. الرأي العام في جهة سيدي بوزيد وكذلك ببقيّة مناطق البلاد لازال في مجمله يعوّل على الدور الرئيسي للدولة في إيجاد الحلول الملائمة لإشكاليات التنمية والتشغيل وهذا أمر طبيعي فمن غيرها يفعل ذلك؟ أليست التنميّة والتشغيل من أسباب وجودها؟ غير أنّه علينا أن لا نحمّل الدولة في ظل الاقتصاديات الجديدة وحدها مسؤوليّة التباطؤ في نسق التنميّة أو الإخفاق في تنفيذ برامج التنميّة و وخاصة جلب الاستثمارات. حتى وان تمسكنا برأينا في تحميل الدولة عدم مراعاة واقع الجهة وخصوصياتها في برمجة مقاربات تنمويّة وبرامج خصوصيّة، فإن ذلك لا يعفينا من تحمل مسؤولياتنا و لا يمكن ان يحجب عنّا الدور الضعيف للإدارة السياسية المحلية وعجزها عن تقديم مشروعات وأفكار لتجاوز الواقع في الجهة، وفشلها في جلب المستثمرين من خارج الولاية، فالجهة تفتقر لمراكز ضغط سياسي يدافع على حظوظ الجهة في مراكز القرار العليا وتدفع في اتجاه ان توليها الإدارة المركزيّة ما تستحق من عناية واهتمام. غياب هذه القوى كانت له تداعيات جد سلبيّة على الجهة ليس فقط في التباطؤ الملحوظ في التنميّة والفشل في جلب الاستثمارات وبعث المؤسسات الاقتصادية، بل في اختفاء مؤسسات صناعية قائمة منذ سنوات وتحويلها الى ولايات أخرى مثل معمل البلاستيك بالمزونة ومعمل تعليب الحليب. 1) مركّب البلاستيك بالمزّونة: هذه المؤسسة تشغل أكثر من مائتين من العمّال استطاعت ولسنين طوال أن تكون مركز إشعاع اقتصادي ساهم في نمو البنيّة التحتيّة وتطوّر قطاع الخدمات ووسّع رقعة النسيج العمراني.. اختفت لأسباب يقال فنية وان المستثمرين الجدد الذين توافدوا على الجهة لتجديد المؤسسة الأم أو بعث مؤسسة جديدة مكانها يشاع بأنّه تمّ تغيير وجهتهم الى ولاية أخرى. 2) معمل تعليب الحليب: بعد انتصاب ادارته ولأكثر من سنة وتعيين مديره العام لم يكتب له أن يشرع في الإنتاج بل حدث تفكيك ادارته والتخلّي عنه لفائدة ولاية مجاورة. هذا حالنا على المستوى الجهوي وحتى على المستوى الوطني يبدو أنّنا لسنا بأحسن حال فهذا وزير الصناعة السيد عفيف شلبي يصرّح في معرض صحفي بقوله (): «ارتفع حجم المشاريع الصناعيّة الأجنبيّة الكبرى بمناطق التنمية الجهوية: (باجة وزغوان وقفصة والقيروان وجندوبة وتوزر وقبلي وسليانة... الخ...). وكما نلاحظ تعمّ الاستثمارات الأجنبيّة كل الولايات الداخليّة وغيرها وتستثنى جهة سيدي بوزيد. قد تكون للحكومة مبرراتها الموضوعية في استثناء سيدي بوزيد من هذه الاستثمارات الأجنبيّة لأنّ مسألة الاستثمار الخارجي مسألة شائكة وليست بيد الحكومة تماما ،فالقوى الجهوية مدعوّة الى القيام بدورها وهذا ما تفتقر إليه الجهة من الإرادة السياسية المحليّة التي تعاضد مجهودات الحكومة ولا تتعارض معها. فعزوف المستثمرين عن الجهة إلى جانب اختفاء مؤسسات قائمة أو هي بصدد التشّكل وغيرها من العوامل الأخرى تسببت في ركود سوق الشغل وارتفاع مهول للبطالة ممّا انجرّ عنه هجرة داخلية الى المناطق الساحلية أين يلاقي خيرة شبابنا وبناتنا الأمرين في البحث عن الشغل والسكن مقابل أجور زهيدة واستغلال كبير... انّ خطاب الرضا عن الذات هو خطاب ديماغوجي فتعداد ما أنجز في الخطابات الرسميةو غير الرسمية لا يمكن ان يحجب عنّا ما لم ينجز أو كان بالإمكان أن ينجز لو تظافرت جهود كل من الإدارة والهيئات السياسية ومكوّنات المجتمع المدني واشتغلت فيما هو مطلوب منها في اتجاه حاجيات الجهة وحاجيات الشباب وخصوصا التشغيل لأنّه صاحب الدور الفاعل في النهوض بالعنصر البشري فبه نحقّق الكرامة وبواسطته نقاوم الفقر والتهميش. فإذا كانت الدولة لا تقدر بل تعجز اليوم عن توفير الشغل لكل طالبيه وذلك بسبب وضع عام دولي همش دور الدولة المحليّة وصارت فيه حتى الدول الكبرى تفشل فشلا ذريعا في القيام بواجباتها الاجتماعية خصوصا الرعاية الصحية والتشغيل فآلتجأت إلى جيوشها وعسكرها للإحتلال وسرقة مدخرات الشعوب المستضعفة خدمة لاقتصادياتها وحل مشاكلها الداخلية. فأمام هذه التحوّلات الاقتصادية الجديدة والتي أصبحت تهيمن وتأثر سلبا على جميع دول العالم وخصوصا منها الدول الصغيرة والدول الفقيرة والتي تعجز عن المواجهة ولا تقدر على الصمود بمفردها لم يبق لها من الخيارات سوى الاستنجاد بمكونات المجتمع المدني والعمل على الرفع من ادائه حتى يعاضد مجهوداتها وصمودها في وجه زحف الرأسمالية المتوحشة. فالدور يأتي على قوى الحياة لإنشاء مجالس اجتماعية محلية تعتني بتعميق التفكير حول القضايا المتعلقة بالتشغيل والاستثمار وجلب المستثمرين ومساعدة الباعثين الشبان الى غير ذلك من القضايا المتعلقة بحياة المتساكنين الى جانب استتنباط الحلول والتحرّك قصد الضغط على الجهات المعنيهة ومتابعة نسق التطور. هذه الهيئات لو وجدت بالجهة لا أعتقد أنّها تسكت على العديد من النقائص .والتي هي من اختصاص الإدارة، وانجازها ليس بالمستحيل ولا تتطلّب استثمارات خارجية بل تتطلب برمجة تراعي العدالة الاجتماعية والعدل بين الجهات. فمسألة الجامعة وبناؤها تدريجيا خاصة والأرض المخصصة لذلك مهيأة ومسيّجة منذ سنوات خلت توفر على أبنائنا الطلبة المعاناة والأتعاب التي لمتعد تطاق في تحوّلهم الى الولايات الأخرى كما توفر على ذويهم وخصوصا منهم الموظفين الصغار والعمّال وضعاف الحال وهم الأغلبية المطلقة للسكان، -توّفر عليهم -العجز في الميزانية وتعفيهم من الاقتراض المستمر. وأمّا المعهد النموذجي، فما أظنّ ذلك يكلّف الإدارة الشيء الكثير لكنّها توفّر على الأولياء- لو أحدثتها-الشيء الكثير من معاناة مادية ونفسية هم في غنى عنها وبذلك فقط يستريح المواطن ولا يشعر بالغبن ولا تذهب به الظنون متهما الإدارة بالتعامل بمكيالين وتفضيل جهة على أخرى، فكل الولايات المحيطة بسيدي بوزيد لا تشكو هذا النقص بل وينعم مواطنوها بقرب المعاهد من أبنائهم المتفوقين. مسألة أخر نوردها تخّص المستشفى الجهوي سواء من حيث فضاءاته وخدماته أو تجهيزاته التي لا ترتقي إلى مستوى ولاية في حجم سيدي بوزيد، هذا الوضع دفع بالمرضى الى الإنتشار في مستشفيات الولايات المجاورة وما يعنيه ذلك من تكلفة باهضة تربك ميزانية المريض وكم من حالة مستعجلة لم يكتب لها الوصول الى المستشفى المقصود لطول الطريق... إلى جانب عدم وجود طبيب شرعي ممّا يضطر الأهالي المنكوبة الى التحوّل الى الولايات المجاورة وكم من حالة تطلبت الإنتظار أيّاما؟ وما يعنيه ذلك من ألم وحزن وضغط نفسي يؤرق المنكوبين. الخ... إنّ متساكني هذه الربوع قد صنعوا شرفهم بأنفسهم عبر عديد المحطّات التاريخية لعلّ من أهمّها مواجهة الإستعمار الفرنسي الغاشم بأكثر من ألفين من المقاومين قدمواخلالها المئات من الشهداء في سبيل حرية الوطن ورفعته وقد تميّز أبناء سيدي بوزيد بصنع التاريخ وهم اليوم مدعوّون الى التميز بالوعي والعمل على تجسيده قصد النهوض بالمنطقة لتلتحق بركب الولايات المتميزة ولن يكون ذلك ميسّرا الاّ بتكوين هيئات اجتماعية وبروز مواطن ضغط سياسي تعاضد مجهودات الدولة.