سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رسالة التليلي الى بورقيبة: درس غير مسبوق في الديمقراطية وقدرة فائقة على تحليل الواقع صفحات من تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل أزمة سنة 1965 (7):
عندما انتفض بورقيبة على نويرة ورماه بالخيانة!
يواصل الاستاذ منصور الشفي فيما يلي الحديث في فصل جديد من فصول تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل ويتعرض فيه بالخصوص الى الرسالة المرجعية الشهيرة التي بعثها المناضل الأخ أحمد التليلي الى رئيس الدولة والحزب الدستوري الحبيب بورقيبة وما أثارته لديه من سخط وتحفظ. في 25 جانفي 1966 أرسل أحمد التليلي رسالة من منفاه الإختياري بأوروبا الى الرئيس الحبيب بورقيبة وهاته الرسالة مكتوبة بأسلوب فرنسي رفيع وقد رصد فيها الأزمة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية التي تمر بها البلاد و جاء في مفتتحها (في الوقت الذي يمرّ فيه الشعب التونسي بفترة من أخطر فترات تاريخه يفرض عليّ الواجب ان ألح لديكم مرّة أخرى على مراجعة السياسة او على الأصح ودون إنفعال مراجعة طرق الحكم التي أردت بالبلاد اليوم في حالة من الخطورة تهدّد بجعلها في المستقبل القريب منسدّة الآفاق). ويضيف في هاته الرسالة (إنّ نجاحنا في فترة الكفاح من أجل التحرير الوطني يعود في نسبة كبيرة منه الى عاملين قارين لم نهملهما قط وسرنا دوما على هديهما في عملنا وهما:1) ان نظاما يفرض نفسه على شعب بالقوّة ويرفض تشريكه في التصرّف في شؤونه هو نظام محكوم عليه حتما بالفشل. 2) وانه لا يمكن تحقيق اي تقدّم يستحق الذكر في المجال الإقتصادي والاجتماعي في نطاق نظام سياسي لا يكون فيه للشعب وهو المعني بالامر حق في النظر أي لا يساهم في اخذ القرارات. ولكي لا أخل بمحتوى الرسالة أو إعطاء فكرة منقوصة عنها فإني سوف لا أقوم بتلخيصها والاولى قراءتها في نصّها الفرنسي او مترجمة وهاته الرسالة كانت بالفعل انشودة للحرية وللديمقراطية لو أعطاها الرئيس بورقيبة العناية التي تستحقها لاحدثت منعرجا في تاريخ تونس المعاصر. أمّا الشعب ونظرا للتعليم الذي كان سائدا طيلة هاته السنوات فانه لم يتمكن من الاطلاع عليها وعلمت فيما بعد ذلك بسنوات ان الرئيس لما أطلع على بعض الفقرات منها اذن بتوزيعها على أعضاء الديوان السياسي ليطلّعوا بأنفسهم كيف ان أحمد التليلي يريد ان يظهر الاكثر ديمقراطية حتى منه هو الحبيب بورقيبة. إستمرت الأمور على ماهي عليه وقد أعلمني المرحوم الحبيب عاشور بأنه بلغه أن أحمد التليلي بعث برسالة لبورقيبة يحلّل فيها الوضع السيء الذي آلت اليه البلاد وانما لم أطلع على هاته الرسالة الاّ سنة 1978 عندما نشرت جريدة الرأي ترجمة لها ثم تسنّى لي قراءتها في نصّها الاصلي الفرنسي ثم قرأتها مطبوعة بمفردها وكانت مسبوقة بدراسة ممتازة عن أحمد التليلي كتبها بالفرنسية الاستاذ الحبيب بولعراس. ثم قرأتها مؤخرا في الكتاب الذي أصدره مؤخرا الباجي قائد السبسي عن الحبيب بورقيبة إذ نشرها لأهميتها في آخر كتابه من جملة الوثائق الهامة كما انها نشرت بكتاب أحمد التليلي في سبيل الديمقراطية أذكر أنه سمعنا فقط بالرسالة تلك فقد قال لي عنها المرحوم الحبيب عاشور لكن اعتقد انه لم يقرأها آنذاك هو أيضا. هاته الرسالة تقع فيما يزيد عن الستين صفحة من الحجم الصغير، وقد أعدت قراءتها مؤخرا وأعتقد انه لم يصدر عن اي مسؤول حزبي او نقابي نقدا حادّا لسياسة بورقيبة بمثل ماكان عليه الامر في هاته الرسالة ولابدّ لقارئها الان من ان يندهش من قوّة التحليل التي كانت عليه ومن جرأة أحمد التليلي وشجاعته في مواجهة بورقيبة وتحميله وحده مسؤولية الفشل السياسي الذي آل اليه الحال في تونس فهو يقول له أن تمسكه بالحكم الفردي وانعدام الحوار وتقليد المسؤولية للمسؤولين بالتعيين لا بالانتخاب كل ذلك ادّى الى يأس الشعب وبغضه للنظام. ولا عجب ان بورقيبة بعد ان قرأ هاته الرسالة وطلب من بعض المقربين قراءتها كما روى لنا بعض المترددين على القصر أصبح مقتنعا ان احمد التليلي صار عدوّا له خاصة وان هذا الموقف يعلن عنه في صحافة الغرب ويقنع به أصدقاءه الامريكيين ولم يكن بورقيبة ليغفر له ذلك مطلقا لولا حالته الصحية الصعبة انذاك وتفكيره في تغيير سياسة التعاضد وليس أساليب الحكم وكان منذ تلك السنوات اي بداية 66 و67 بدا بورقيبة يسمع كلام حاشيته حول المآسي التي انجرت من تطبيق سياسة التعاضد القسري وجبر الفلاحين الصغار على التخلي عن قطع ارضهم وزياتينهم وتمكين بن صالح من قهر هؤلاء بسياسة يشرف على تطبيقها اناس أشدّاء من نوع عمر شاشية. كان من جملة المترددين على القصر التاجر محمد صفر وقد روى للحبيب عاشور وكنت حاضرا معه انه لما فاتح بورقيبة في شأن أحمد التليلي وقال له ان أحمد ليس ضدك يا سيدي الرئيس سكت بورقيبة طويلا ثم قال: إذا فلماذا غادر البلاد؟. تم التعتيم على رسالة احمد التليلي ووقع تناسيها خاصة وان أحمد لم يقترح في رسالته شيئا عمليا فيما عدى طلب العفو التشريعي العام تليه مرحلة سنتين يقع فيها الاعداد جيدا لاجراء انتخابات حرة وربّما تكون الانتخابات البلدية التي ستجرى سنة 1966 بداية للتجربة ووجوب إحترام الدستور. يقول الباجي قائد السبسي في كتابه المذكور انه في تلك الفترة لم يكن ايّ واحد منهم (أي من المسؤولين الحزبيين) من يدعو الى الديمقراطية ويعتبر إنعدام مشكلة تونس الاولى فيما عدى أحمد التليلي. كنّا في شهر أفريل 67 والمعذرة للقراء اذا لم أحترم التسلسل الزمني في رواية الاحداث قد تعوّدنا أحمد التليلي (بعد رجوعه) والحبيب عاشور وانا معهما التردد في اغلب «الصبحيات» على مقهى تابع لنزل الكلاريدج آنذاك وجرّنا الحديث الى تقييم رجالات الحزب وموقفهم من تطبيق الديمقراطية بالبلاد عندما طلب الحبيب عاشور من أحمد التليلي ان يروي لي محادثته مع الهادي نوريرة حول الديمقراطية بعد حدوث مؤامرة 1962. فقال احمد التليلي: (بعد إكتشاف المؤامرة وبقاء الرئيس بورقيبة بمدينة الكاف كان الباهي الادغم كاتب الدولة للرئاسة يتردد عليه باستمرار وفي احد الايام قال الباهي الادغم للرئيس ان الاخوان بالديوان السياسي يقولون بأنّنا وصلنا الى هاته الحال اذ ان الحوار قد إنعدم وعلى الأقل في مرحلة اولى بالديوان السياسي فأجاب بورقيبة (أبدا انا أسمح بالحوار والنقاش فيما بيننا بل أنا أطالب به وقل للإخوان ان يأتوا لمقابلتي هنا بالكاف وحدّد لهم موعدا وفي اليوم الموعود كان أحمد التليلي قد أقبل بسيارته ومعه سائقه ولما رأى الهادي نويرة مقبلا قال ان له حديث مع الهادي نويرة وانه سيرافقه بسيارته وطول الطريق كان المرحوم التليلي (يشحن الهادي نويرة معارضة) بلغة إخواننا المصريين او كما يقول التوانسة (يعمّرو). ولما إستقبلهم بورقيبة قال لهم: علمت انكم تريدون ان تتحدثوا معي فتفضلوا فمن يريد أخذ الكلمة فكان الهادي نويرة هو أوّل المتكلمين وألقى بسطة حول إنعدام النقاش الحرّ على كافة المستويات بالحزب وخاصة بمستوى الديوان السياسي وهذا خلق جوّا خانقا ولتكن لنا فيما حدث عبرة وما ان انهى الهادي نويرة كلامه حتى انبرى الحبيب بورقيبة بالقول: (تكلّمت انت، انت خائن لبلادك، أنسيت كيف أنّك أقدمت على الإستقالة من الحزب عندما كان الشعب متهيئا للمقاومة وكان النضال الوطني في اوجه فأدخلت الإضطراب في صفوف الوطنيين، والآن لك الشجاعة لتتجاسر فتطالبني بان أحاورك) ثم إلتفت الى بقيّة الأعضاء وأغلظ لهم القول واحدا واحدا. ولما إنتهى من كلامه بل من خطابه إنتصب واقفا وهو يصفّق بيديه ويقول بالفرنسيّة والآن لنمرّ لمائدة الطعام، ولم يكن لأيّ واحد رغبة في الأكل وخاصة الهادي نويرة. وهكذا كان بورقيبة يعامل الجميع. كان أحمد التليلي وهو يروي الحادثة يتألّم وأضاف: ربّما الآن حالة المرض التي عليها الرئيس تغيّره الى ماهو أحسن. ولكن بورقيبة لم يتغيّر وتوفي احمد التليلي وهو يتألّم مما بقيت عليه حالة تونس. وبعد وفاة التليلي كان بورقيبة يتهيأ للإنقضاض على ضحية أخرى وجدها في شخص أحمد بن صالح وبعد ان شجعه على المضي قدما في سياسته، تنكر لما صدر منه وقال انه وقع تغليطه والتغرير به وانّ ما قام به بن صالح نحوه هو خيانة ولكن لذلك حديث آخر. عندما كان بورقيبة قد تلقى رسالة احمد التليلي كان في نفس الوقت يتهيأ لمحاكمة الحبيب عاشور لدى محكمة الإستئناف بصفاقس. كنا نحن ايضا نتهيأ للمحاكمة وقد حصلنا على الإستشارة القانونية من البروفيسير لوفاسار وبقينا أياما عديدة نلتقي انا والمحامي الاستاذ الطاهر الاخضر في مكتبه لنعدّ انفسنا ونتمرّن على المرافعة فقسّمنا الموضوع الى جزئين الجزء المتعلق بجريمة الشيك دون رصيد والجزء الثاني هو المتعلق بعدم تجهيز باخرة بالأوراق القانونية المنصوص عليها بمجلة التجارة البحرية. إستمرت مقابلاتنا أنا والطاهر الاخضر عشرة ايام متوالية اذ كنا حسب اتفاقنا او بالاحرى حسبما طلبه منّي أتوجه الى مكتبه على الساعة السادسة مساء ونبقى هناك حتى الساعة التاسعة ليلا فنعيد كلّ ليلة قراءة الحكم الإبتدائي الذي كنا اعددنا إنتقاداتنا له وبعد ذلك وفي آخر الحصة يقوم هو بالقاء مرافعة حول جريمة الشك دون رصيد ثم بعد ذلك اقوم انا بالقاء مرافعة حول الجريمة المتعلقة بأوراق الباخرة ومن الغد نعكس الادوار فأقوم انا بالمرافعة في موضوع الشيك والطاهر الاخضر في موضوع اوراق الباخرة وهكذا بعد العشرة ايام من هذا التحضير كان كل منا قادرا على المرافعة في كامل الملف. وقد حرصت على ذكر هاته التفاصيل ليطلع القراء على طريقتنا في العمل انا وصديقي المرحوم الطاهر الاخضر الذي كان قد تحمّس لقضية الحبيب عاشور حماسا شديدا وكانت هي القضية السياسية الوحيدة التي باشر الدفاع فيها بعد الاستقلال وكانت له مقدرة فائقة جمعت الى جانب قوّة الحجة وسرعة البديهة موهبة خطابيّة منقطعة النظير، ولم يشاركنا المرحوم محمد بن الناصر في هذا الإعداد للمرافعة وكان ان توجه لصفاقس قبل يومين من المحاكمة ليجد الوقت الكافي للإعداد للمحاكمة كما ان الطاهر الاخضر قد تحوّل الى صفاقس قبل يومين من المحاكمة وبقيت انا في تونس لأرافق المحامي نيكولاي والذي كان مصحوبا برايمون قوس وهو صهر الامين العام للسيزل أومير بيكي اذ هو زوح إبنته وكان مكلفا بالعلاقات الخارجية بالسيزل وكنت قد تعرفت عليه منذ مدّة في إحدى زياراته لتونس عن طريق الحبيب عاشور وأصبحنا صديقين وتوجهنا جميعا الى صفاقس في اليوم السابق للمحاكمة رفقة الحبيب عاشور. وكنت قد تلقيت بتاريخ 16 فيفري 1966 رسالة من نيكولاي يذكرني فيها بأنه لم يتلق مني بعد ما طلبه من وثائق لإعداد إستشارة قانونية تهم تهمة عدم تجهيز الباخرة ببعض الاوراق القانونية، وهاته الوثائق التي يريدها نيكولاي تتمثل في الإختبار المجرى على باخرة الحبيب (وهو الإختبار الذي لم يضف لملف القضية ولم تمكننا منه السلطة فهو لم يكن لدينا) وشهادات الراكبين بالباخرة وعقد التأمين ويقول انه لم يتلق هذا بالرغم من الإلحاح. وفي الواقع فإننا منذ أن اصبحنا نشك فيه، قررنا أنا والحبيب عاشور عدم التعاون معه ولم نرسل له أية وثيقة بل لم نرد حتى على رسالته خاصة وان موعد المحاكمة كان قريبا ولم يكن الوقت كافيا لإعداد إستشارة. ويقول في هاته الرسالة انه إلتقى في باريس في أوائل فيفري بأحمد التليلي، وقد قال له انه سيرسل لنا المحامي الرزقي بوزيدة من هيئة المحامين بالجزائر، كما أنّه سيسعى الى إنتداب محام فرنسي، ثم يعلق نيكولاي انه لا يرى جدوى في ذلك ويضيف أنه طلب من السيزل إذا ما كانت مستعدة لدفع أجرة المحامي الفرنسي وأجابته بالنفي، كما قال في هاته الرسالة أنه سيتقابل مع (بيكي) الأمين العام للسيزل وسيحدثه عن الصعوبات التي يلاقيها مني. وفعلا ففي صباح يوم المحاكمة لدى الإستئناف وجدت في إنتظاري في بهو المحكمة وقبل بدء الجلسة الاستاذ الرزقي بوزيدة وقد طلب مني ان أقدّمه الى رئيس محكمة الإستئناف المرحوم الصادق الآجري والذي كان من أصدقاء المصلح الطاهر الحداد ومن أتباعه وقد درس معه الحقوق، وعند حدوث الإنشقاق اليوسفي كان من الذين لا يخفون إنتماءهم لليوسفية. وعندما قدّمته للرئيس الآجري قال له الرزقي بوزيدة بلهجته الجزائرية: «أتيت مع زميلي يترجم لي إذ أني لا أهدر بالعربي»، فأجابه الرئيس ها أنك تهدر، فقال بوزيدة: شوية شوية فقال له هاك أنك تهدر وضحكا، ورحّب به الرئيس الآجري ترحيبا خاصا وحضر معنا بوزيدة في الجلسة، بعد أن قدّم إعلام نيابته عن الحبيب عاشور. وقبل إفتتاح المحاكمة فوجئ الجميع بالأعداد الغفيرة من الناس الذين قدموا لحضور المحاكمة، ويظهر ان الوالي كان في نيّته أن يعطي تعليماته لمنعهم من دخول المحكمة ولكن أجابه المرحوم عبد الجليل ثابت المدعي العام لمحكمة الإستئناف بأن ذلك ستترتب عنه فوضى عارمة وربما مصادمات وأنه يفضل تمكينهم من حضور المحاكمة وطلب مني الوقوف معه بباب الدخول للمحكمة. وترأس الجلسةالرئيس محمد الزياني وكان معروفا بصعوبة طباعه وربما اختير لهذا السبب. وسوف أتحدث في الحلقة القادمة عن سير المحاكمة بجلسة الإستئناف. (يتبع)