ثمة شرعية لاعتبار أن الخطيئة الأساسية لخط المفاوضة الفلسطينية إنما يتمثل باتفاق اوسلو (1993)، الذي أجّل التقرير بمسألتي الاستيطان والقدس، ولم يعرّف أراضي الضفة والقطاع كأراض محتلة، وافتقر إلى تحديد الهدف النهائي من المفاوضات، وكلها مسائل ذات صلة بطموح القيادة لإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع المحتلين عام 1967؛ بعد أن تم اختزال المشروع الوطني بهذا الهدف. أيضا، فإن هذا الاتفاق لم يستند إلى أية مرجعية قانونية دولية، ولم يوضّح مكانة إسرائيل كدولة احتلال؛ فضلا عن انه اجّل البحث بقضية اللاجئين الفلسطينيين. وبالنظر إلى كل ما تقدم يمكن التكهن بأن القيادة الفلسطينية (وهي قيادة فتح والمنظمة)، التي وقعت هذا الاتفاق حينها، لم يكن غائبا عن بالها ولا عن حساباتها السياسية القضايا المذكورة، بمعنى أنها وقعت هذا الاتفاق عن سابق معرفة بمضامينه المجحفة، في محاولة منها لتعويم ذاتها، في مرحلة كان يجري فيها العمل، دوليا وإقليميا، على شطبها أو تهميش دورها ومكانتها. وعلى الأرجح فإن تلك القيادة كانت تدرك وقتها التهديدات والتحديات التي باتت تواجهها، خصوصا بعد أن باتت تفتقد لإقليم معين تمارس من خلاله دورها (إثر خروجها من لبنان بعد الأردن)، وبحكم تجفيف أنشطة المقاومة المسلحة التابعة لها، وبواقع تحول ثقل العمل الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، متجسدا في الانتفاضة. وكانت تلك القيادة نظرت بقلق وحذر كبيرين إزاء حرمانها من المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام (أواخر العام 1991)، على قدم المساواة مع الأطراف العرب الآخرين، وازدادت ريبتها أكثر بعد تشكيل وفد من فلسطينيي الضفة والقطاع للمشاركة في المفاوضات ضمن وفد مشترك أردني فلسطيني. ومن المعلوم أن قيادة فتح (وهي قيادة المنظمة) كانت تتوجّس من أية محاولة لبلورة مركز قيادي فلسطيني جديد، وأنها خاضت معارك كبيرة ضد مثل هذه المحاولات. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بمقاومتها محاولات إنشاء قيادة فلسطينية جديدة، سواء من قبل إسرائيل (مثال روابط القرى)، أو من قبل بعض الأطراف العربية المعنية بملف الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما هي شملت المحاولات الوطنية الفلسطينية، أيضا. ومثال ذلك مقاومتها لتشكيل قيادة موحدة للانتفاضة الأولى (19871993)، وحرصها على إضفاء أبوّتها على هذه الانتفاضة، واثبات تحكمها بوتائرها؛ (وهي ذات التجربة المريرة والمضرة التي حدثت في الانتفاضة الثانية التي اندلعت أواخر العام 2000). بالمحصلة فقد تمكنت القيادة الرسمية عبر مسار أوسلو من إزاحة الوفد الفلسطيني المفاوض (برئاسة حيدر عبد الشافي وعضوية فيصل الحسيني وحنان عشرواي وغيرهم)، في مقابل اعتراف الولاياتالمتحدة وإسرائيل بالمنظمة، وتعويم دورها مجددا، ولو بثمن الإجحاف المتضمن في اتفاق اوسلو، وبثمن عودة منظمة التحرير وفصائلها للداخل لإقامة كيان السلطة الفلسطينية. وبديهي أن هذه العودة كانت تتضمن سلفا مراجعة المنظمة وفصائلها لشعاراتها السابقة، وأشكال عملها، والتحول من حركة تحرر وطني إلى نوع من سلطة، تتوخى، أو تطمح، لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة. على كل، ليس القصد من هذا الكلام الإيحاء بأن ثمة خيانة، أو أن القيادة المعنية أقدمت على ما أقدمت عليه من تنازلات طواعية منها، وإنما القصد من ذك التوضيح بأن ثمة سياسات ورؤى هي التي أودت بالقيادة السائدة إلى هذا المسار. ففي حينه، مثلا، كان ثمة تقدير، لدى هذه القيادة بأن اتفاق اوسلو سيخلق مفاعليه ودينامياته، وأنه سيفضي إلى قيام دولة فلسطينية. بل وثمة من كان أكثر طموحا (وادّعاء) بشأن امكان تحوّل هذه الدولة إلى نموذج يحتذى في الشرق الأوسط على غرار سنغافورة وهونغ كونغ، إلى غير ذلك من المعزوفات التي سمعناها حينها. أيضا كان ثمة تقدير بأن إسرائيل متلهفة لعملية التسوية، وكأنها لم تعد تستطيع العيش بدون إقامة دولة فلسطينية إلى جانبها، وأن الرياح الدولية، بعد انتهاء الحرب الباردة، وهيمنة الولاياتالمتحدة على المنطقة، وسعيها لإقامة «شرق أوسط جديد»، سيقدم الدفع اللازم لانبثاق الدولة الفلسطينية الموعودة. التقدير الأخر الذي كان لدى القيادة انبنى على مراهنة مفادها أن الأولوية تقتضي الحفاظ على الكيانية الفلسطينية، بغض النظر عن الانجازات الملموسة أو بغض النظر عن تمثلاتها على أرض الواقع، في ظل زعيم على غرار الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان مشغولا بالرموز والمعاني، أكثر من انشغاله بالوقائع والمؤسسات. وكما بات معلوما فإن هذه المراهنات كانت جد خاطئة، ولم تكن في محلها، والأنكى أنه لم تجر أية مراجعة جدية لها. فالمراهنة على ديناميات الاتفاق لم تأخذ بعين الاعتبار الطرف الأخر (إسرائيل)، ولا قدراته على تجيير الأوضاع لصالحه، وهو ماحصل فيما بعد، ومثال ذلك أن عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة بما فيها القدس ارتفع من 180 ألفا عند توقيع اتفاق اوسلو إلى حوالي 500 ألفا الآن. وبالنسبة لسعي إسرائيل إلى التسوية، فقد غاب عن هذا التقدير أن ثمة وجهات نظر أخرى فيها، وأن ليس ثمة في الواقعين الفلسطيني والعربي ما يضغط على عليها، إلى الدرجة المناسبة التي تمكنها من تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية. والنتيجة أن التسوية حتى على مستوى الحل الانتقالي، ومدتها خمسة أعوام، لم يجر الالتزام بها؛ ونحن نشهد الآن فصولا من رفض إسرائيل لمجرد تجميد الأنشطة الاستيطانية، وليس إنهاء الأنشطة الاستيطانية (وهو المفترض)! أما بالنسبة للمراهنة على الكيانية المعنوية، على حساب القضية الوطنية، فكانت جد خطيرة وضارة (كما ثبت حتى الآن)، وهي مراهنة متأتية من عقلية أبوية ومزاجية، تعطي أولية كبيرة للكيانية المعنوية على الكيانية السياسية المتجسدة في مؤسسات وبنى على الأرض. وهي مراهنة استندت إلى توجهات طبقة سياسية تحكمت أو احتكرت القرار، في ظل نظام فردي وعسكري وشعبوي، يفتقد للمأسسة والمشاركة والعلاقات الديمقراطية. وبمحصلة هذه المراهنات فقد خسر الفلسطينيون كيانهم السياسي المعنوي الموحد (المنظمة)، ولم يربحوا السلطة، التي أثيرت الشبهات المسلكية والوطنية حولها، وحول تحكم طبقة سياسية معينة بها، بحيث باتت هذه السلطة في واقعها الراهن، بمثابة عبء على الفلسطينيين، وقيدا ثقيلا على حركتهم الوطنية؛ وحتى على عملية المفاوضات ذاتها. الآن، برفضها التفاوض في ظل استمرار الأنشطة الاستيطانية، وبتمسكها بإيجاد مرجعية قانونية دولية للمفاوضات، يبدو أن القيادة الفلسطينية تتجه نحو مراجعة خطها التفاوضي، وهي مراجعة جد متأخرة، ويخشى أن الزمن تجاوزها، ومع ذلك فهي مراجعة مطلوبة. هكذا لم تعد المسألة تتوقف على المراجعة، فالمطلوب أيضا العمل على إيجاد بدائل وطنية مناسبة للخط التنازلي للمفاوضات. وفي هذا الإطار لايكفي التلويح بإمكان قيام السلطة بحل ذاتها، أو باستقالة رئيسها، أو بسعيها للإعلان عن دولة فلسطينية بعد عامين، أو بالتحول من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة، لأن هذه الايحاءات لا تؤخذ على محمل الجد إن لم تكتسب دينامية وإن لم تترجم على أرض الواقع. وبمعنى أخر فإن هذه الخيارات وغيرها ينبغي أن تستند إلى نقاش سياسي عام، وإلى إعادة بناء البيت الفلسطيني، وتوحيده، على أسس مؤسسية وديمقراطية ووطنية، بعيدا عن علاقات المحاصصة الفصائلية، التي أفل زمنها، وبعيدا عن سياسات الاحتكار والاستفراد بالقرار الفلسطيني، وبعيدا عن عصبيات السلطة والقوة.