حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    غدا نزول كميات هامة من الأمطار بهذه الجهات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين طاقة الانتاج وطاقة الاستيعاب الوظيفي والموارد البشرية وحاجة المجتمع وبين القطاع العام والقطاع الخاص
في دوافع المنظومة الصحية في ظل الإصلاح الهيكلي الأخيرومدى التوازن الإنشائي في صميمها بقلم: د. عبد الرحمان عبيد
نشر في الشعب يوم 09 - 01 - 2010

تؤكّد مصادر من وزارة الصحة العمومية أنّ البلاد التونسية قد أدركت مرتبة البلدان المصنّعة في مستوى الموارد البشرية من الأطباء والممرضين من ذوي الكفاءة العالية في مختلف الاختصاصات والمستويات. وقد عكست شاشة التلفاز الوطنية جملة من الشواهد الحيّة لعديد من العمليات الدقيقة والمعقّدة في عديد المستشفيات التونسيّة، ومن ضمنها زرع الأعضاء بأنواعها، بصرف النّظر عن الممرضين المتخرجين من المدارس القائمة بجلّ الجهات، وبفائض من كلا الصنفين ذي تراكم سنوي ثقيل أضحى يشكّل معضلة اجتماعية حادة من بطالة أصحاب الشهادات العليا من الأطباء ومن أهل الاختصاص(1) بحيث لم تعد تونس في حاجة إلى تدخل أجنبي في أخطر العمليات وفي الكشف عن أدقّ الأمراض وفي التصدّي للمعالجة الناجعة، اللهمّ إلا في مستوى الآلات النّادرة، أو عزيزة المنال... بل أنّ تونس أصبحت تصدّر الكفاءات الطبيّة إلى الخارج حتى إلى بعض البلدان المصنّعة كألمانيا، وإيطاليا وإسبانيا وخاصة في جراحة التجميل (2) وقد باتت من أبرز وجهات البلدان الشقيقة والصديقة من الوطن العربي والإفريقي ولاسيّما من المغرب العربي.
ومعنى ذلك أنّ السؤال عن عدد أفراد المجموعة البشرية المقدرة لكل طبيب أو ممرض لم يعد واردا في هذا البلد الصغير اللهم إلا في بعض الأرياف فيما نعلم...
ومنطقي أنّ تلك الإنجازات الجبّارة التي تحقّقت في بلادنا على مستوى هذا القطاع البنيوي للإنسان والوطن على مرّ العقود الخمسة الماضية، إنّما يفترض حصول واقع صحّي عمليّ عندنا يعادل أو يقترب ممّا هو قائم في البلدان المصنّعة كالتي أشرنا إليها وعلى صعيد العرض والطلب، وتكافؤ الفرص في حقّ العلاج بتأمين الراحة النفسية والجسدية وحسن المعاملة للجميع. وإن اختلفت الإشكاليات البنيويّة والهيكليّة والإمكانيات الاقتصاديّة بالخصوص.
وذلك ما سنحاول تناوله في هذه الصفحات في ظل ذلك الإصلاح المذكور أعلاه في إطار جملة من التوازنات.
في نهج الإصلاح الهيكلي 1993
خلفياته وانعكاساته
كانت الخدمات الصحّية بالقطاع العام بالنّسبة إلى غير المكفولين اجتماعيا من عديمي الدّخل أو ذوي الدّخل المحدود جدّا مجانية أو شبه المجانية ويبدو أنّ هذا النظام قد داخلته بعض الملابسات والفوضى وأثقل ربّما كلفة ميزان الاعتمادات الصحية مع ارتفاع سعر الأدوية المستوردة والمعدّات الطبيّة في كنف طوفان العولمة وتوجهات الخوصصة، وترشيد الأسعار... (كذا).
مع الإشارة إلى أن ذلك الوضع المجاني قد سهّل على المواطن إمكانية السّعي إلى المؤسّسة الصحّية العموميّة لأتفه الأسباب أو حتى لأوهام... ممّا قد يكون أثّر سلبيا في مسار العمل الصحّي كما يرى بعض الجامعيين من رؤساء الأقسام والمشرفين على المستوصفات والأقسام الاستعجالية.
ولعلّه من المنطقي أن تنطلق الدّعوة إلى التفكير في تحسيس المواطن وجوديّا أو ماديا بضرورة الوعي بحقيقة ما ينتفع به من الخدمات الصحيّة وبالخصوص معاليم الأدوية والتجهيزات الطبية وأجور الموارد البشرية القائمة بالعمل الصحّي، وربّما كان هذا التوجه من دواعي الإصلاح الجديد المتمثل في قانون جويلية 1993.
وقد جاء في الفصل الأوّل من هذا القانون ما يلي: »لكلّ واحد الحق في الصحّة في أحسن الظروف الممكنة...« فكيف تبلور هذا الحق في حيز الممارسة؟ وما هي أبعاد التحسّن في ظروف المعالجة لدى المواطن في ظلّ هذا الإصلاح؟ وما هو مدى تطوّر القطاع الصحي ككل بموجب هذا القانون؟.
1) في تحديد الكلفة بالقطاع العام
يضبط التراتيب الجاري بها العمل التعريفات التالية حسب الأصناف:
أ) الصنف الأوّل: المنضوين تحت نظام التعريفة الكاملة للعلاج والإقامة والتحاليل (ليس لهم تغطية اجتماعية) يطالب هذا الصنف بدفع التعريفة الكاملة للعلاج والإقامة والتحاليل بنسبة 100.
ب) الصنف الثاني: المضمونين الاجتماعيين (منظوري الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية) حاليا الصندوق الوطني للتأمين على المرض.
هذا الصنف مطالب بخلاص المبلغ التعديلي للعلاج والإقامة والتحاليل كالآتي:
دفع مبلغ 4.500 بالنسبة للعيادات الخارجية والاستعجالي.
دفع مبلغ من 30 إلى 40 دينارا) حسب الاختصاص) لكامل مدّة الإقامة.
التحاليل والكشوفات:
دفع نسبة 20 من مبلغ التحاليل والكشوفات لا تتعدّى سقف 30 دينارا.
ج) الصنف الثالث: المتمتعون بالتعريفة المنخفضة (صنف 2) هؤلاء ينطبق عليهم نفس الإجراءات للمضمونين الاجتماعيين.
د) الصنف الرّابع: المتمتّعون بالعلاج يضمّ هذا الصّنف:
أعوان الصحة العمومية، أعوان الأمن الدّاخلي، أعوان الدّيوانة، الجيش الوطني، المقاومين، المناضلين، المكفوفين، إلخ...
ه) حاملي بطاقات الإعاقة والمنضوين تحت نظام التغطية الاجتماعية غير مطالبين بدفع أي مبلغ مع العلم وأنّ تحمل كلفة علاج وإقامة هذا الصنف على حساب الصندوق الوطني للتأمين على المرض بما في ذلك المبلغ التعديلي.
2) الهياكل الصحّية العمومية:
مؤسسات عمومية 21
معاهد مختصة 6
مستشفيات جهوية 33
مستشفيات محلية 109
مجامع صحية 24
مراكز صحية اساسية 2058
مراكز جهوية للصحة المدرسية 9
3) التجهيزات الصحية:
أمّا على مستوى التجهيزات الآلية والإلكترونية المستوردة والباهظة الكلفة فالجميع يعلم أن قدرات بلادنا على احتوائها بالحجم والكم والنّوع المتيسّر لدى البلدان النفطية أو منتجيها) الآلات) غير قابل للمزايدة ولكنّنا نعلم أنّ نسبة توفر استيفاء الحاجة منها قد لا تقل كثيرا عن البلاد الغنية في العالم الثالث وإنّما براعة استخدامها من قبل تلك الأيدي لا تقبل النقاش.
على أنّ القطاع الخاص أبعد ما يكون عن مستوى المؤسسات الخاصة في البلاد الغربية كبعده عن مستوى آليات القطاع العام اللهمّ إلاّ بعض الآليات الصغيرة، آليات التشخيص والأشعة والتحليل غالبا كما سنرى.
واقتضاءا لافتراض توافر ما ذكرنا من المعطيات والإمكانيات بشريا، ومعدّات، وتجهيزات، واعتمادات في حدود الكفاية الممكنة في ظلّ ذلك الإصلاح للمساهمة الشعبية في كلفة العلاج يجوز أن نتصوّر حصول التوازن المقنع وحتى المريح بين العرض والطلب أي القدرة العملية لطاقة الاستيعاب الحقيقي... كمّا وكيفا وجدوى لأجزم وقد انتشرت موجة الاستثمار في القطاع الصحّي التي يفترض أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة... مع توازن مستقر بين القطاعين في مستوى النجاعة وحسن المعاملة وتأمين الإقامة المريحة وتجنب الشطط في المعاليم وفي الآجال المضروبة لمباشرة العلاج، والمراقبة أيضا.
ولمَ لا يحدونا الطموح في أن لا يختل التوازن كثيرا بين واقع أداء المؤسسات الصحية عندنا ونظيراتها في البلدان المتقدّمة كفرنسا، في إطار تلك الجوانب المذكورة كما هو الحال مع بعض المستشفيات النموذجية في بلادنا مثل »المستشفى العسكري«، و»القصاب«، و»المنجي سليم« بالمرسى، و»الأمراض الصدرية« بأريانة، و»سهلول« بسوسة إلخ... وإن شابتها بعض العوائق التي تعتري غيرها من المستشفيات العامة والخاصة فكيف يتجلى واقع المنظومة الصحية عندنا في ظلّ الإصلاح الهيكلي في ضوء تلك التوازنات المفترضة... حاليا اعتمادا على عيّنة تبدو ممثلة.
الواقع الميداني لسير المباشرة العلاجية عندنا
مستشفى الهادي الرّايس لطب العيون نموذجا
الاكتظاظ محورا ومصدرا:
لقد حظيت بقبول الأستاذة رئيسة قسم العيادة الخارجية بمستشفى الهادي الرّايس لطب العيون بتوجيه أدبي من قبل أستاذ بارز في هذا الاختصاص بباريس من أصل تونسي زاملها في الدراسة والتدريس وفي ندوات البحث العلمي هناك (فيما علمت) أن أحظى بالمعالجة من لدنها كالمصابين ب "Cataract" (ماء العيون) عفا الله الجميع، وما أزال... إلى حدّ سنتي الثالثة هذه!! مواعيد، وفحوص، وأشعة، وتشخيص ، ومراقبة دون أن يتغيّر الحال إيجابيا. ولعلّه من فعل شدّة الإصرار على الإمعان في مواصلة الكتابة والبحث كما لا أذكر أنّ شيئا قد تغيّر ممّا لاحظته منذ ولوجي هذا المبنى العتيد.
فما برح الاكتظاظ على أشدّه ضجيج مضغوط وصراخ أطفال وندءات بأسماء المرضى عند حلول أدوارهم إن للفحص أو للمراقبة... حيث تتراص الخلائق نساء ورجالا شيبا وشبابا وأطفالا في أروقة، ومجازات (كلوارات) نافذة على قاعات الجلوس وانتظارات من مدخل الجناح إلى أقصى ركن قاعات العمليات والإيواء والمراقد.
الاكتظاظ بين المجانية الموارد البشرية وطاقة الاستيعاب
ترى هل أنّ هذا الوضع خاص بهذه المؤسّسة الصحّية، أو لصبغته الوطنية وهذه العيادة الخارجية بالذات لسمعة رئيسة القسم من حيث براعتها في هذا الاختصاص؟ أم تراه عاما كما ونوعا؟
في يقيني أن ذلك هو واقع الأغلبية المطلقة للمؤسسات الصحية العمومية عندنا ولم تكن العيادة الخارجية لمستشفى الهادي الرّايس إلا عيّنة ممثلة لجمعها حيث وقفت شخصيا على الكثير منها لعودة صديق مرّة ومتعيّنا مرّات. سواء بالعاصمة أو داخل الجمهورية وذلك رأي أغلبية ممن تحدّثت إليهم في هذا المضمار ويكاد لا يتجاوز التباين بين تلك الآراء، إلا في تحديد الأسباب التي تمخض عنها ذلك الواقع الرّهيب ولعلّه من الأجدر أن أورد على سبيل المثال رأيا لمحور هذه العيّنة الأستاذة ليلى الماطري، فيما عبّرت عنه إثر مشادة كلامية مع إحدى مريضاتها في حصّة مراقبة التي انفجرت فجأة بما يشبه الهجوم على مكتب العلاج لرئيسة القسم (على أنّها لم تتمكن من مقابلة السيدة الماطري طوال أسابيع وأن وضعها يتداعى للخطر...) ولم تلبث الأستاذة أن خرجت لها دون أن تنقصها الحجة والمهارة في وضعها عند حدّها.. وعاد الحال إلى ما كان عليه.
ولمّا جاء دوري لمقابلة الأستاذة، وقد هدأ روعها، قلت لها إنّي أعتزم الكتابة في الموضوع... ثم سألتها ما إذا كان في الإمكان السماح لي بالإشارة إلى ما حدث مع تلك المريضة، وما يجوز تصوّره من الخلفيات لمثل هذه المشادة...
المجانية هي السّبب
قالت: »لك أن تكتب ما تريد... ولا أخشى أن أقول: هذا وضع لا يطاق لقد عسر علينا أداء وظائفنا على الوجه الذي نرومه رغم العناء والاجهاد...«
قلت: ولكن ذلك وضعا عاما حسب اطلاعي، فما مردّ ذلك في تقديرك أو بالأحرى في تجربتك الميدانية؟
قالت: »إنّها نتيجة »البلّوشي« المجانية التي قلّ أن وجدت مثلها في كلّ ما شاهدت من بلدان العالم الغنية منها والفقيرة منها من العالم الثالث، وأنا أحسب أن التداوي في المؤسسات الصحّية العمومية في بلادنا [فحصا وتحليلا وتشخيصا وجراحة وإقامة وصيدلة] تغلب عليه المجانية، إذا لم أقل أنّه »بلّوشي«، ولاسيّما إذا ما رجعنا إلى تحديد »الكلفة« إلى القيمة الحقيقية المحمولة على ميزانية الدّولة وبالتالي على الرّصيد الوطني وفي مقدرات السّوق العالمية [في ظل العولمة] وإلى تلك المجانية أو شبه المجانية يتولد ذلك الاكتظاظ الهائل والمؤثر على الممارسة العلاجية، إنّما يسهل عليه ارتياد المؤسسة الصحية العمومية لأتفه الأسباب... والإستخفاف بالآجال المحدّدة للمراقبة الطبيّة نتيجة أوهام أو افتعالات كما لاحظت عن تلك المريضة وما أكثر من أمثالها لدينا«.
والحقّ أن ما سمعته من مثل هذا القول ومن مصادر مختلفة ومتنوعة سواء من الأطباء أو أعوان التمريض أو التقنيين أو الملاحظين وبالخصوص بعض رؤساء الأقسام وما أكثرها في المستشفيات العمومية والمستوصفات بالعاصمة والأقسام الاستعجالية فيما شاهدت شخصيا في مناسبات عديدة في عياداتي لبعض المرضى من الأقارب والأصدقاء.
وبديهي أن ذلك الاكتظاظ على ذلك الوجه المتقدّم الذّكر، إنّما يؤثّر عمليا في عطاء الجهاز الطبي ويؤثّر خاصة في تأمين دقّة الفحص، وفي مقاربة الوصفة وحتى في المتابعة لسير العلاج، فأنّى لطبيب بمستوصف بحيّ شعبي أو ريفي أن يفحص بالشروط المطلوبة ما يقارب المائة مريض في غضون أربع أو خمس ساعات؟ ولا ريب أنّ الأغلبية من أولئك ينحدرون من حاملي [جواب الشيخ] أو حتى بطاقة رقم 2 التي تقدّم الحديث عنها [وعددهم يناهز ثلاثمائة ألف أسرة...]
وطبيعي أن تلك الأوضاع بالمصحات الخاصة لا تعرف معنى الاكتظاظ في أي اختصاص وأي مستوى كان؟ بل بالعكس إنّها تستجدي المرضى بكثير من الإشهار المقنّع، وواضح من ذلك ما نلاحظه في الحصص الممنوحة لحساب رؤساء الأقسام بنفس المؤسسة وبنفس الفضاء والجهاز المادي والبشري حصّتان في الأسبوع كما هو الشأن بالنسبة لرئيسة القسم الذي اعتمدناه عيّنة لهذا العمل. اللهمّ إلاّ بعض التذمّر من طول الانتظار... وحتى انتظار حضور الطبيب أحيانا... أو بعض المعاملات من بعض الممرضات مع التنبيه إلى أن رؤساء الأقسام يجمعون بين المباشرة المهنية والإشراف على سير العمل بالقسم في نفس الوقت.
ومع موفور احترامي لتلك الآراء والمواقف وعمق نزاهتها فإنّي أعتقد أنّه ليس بالضرورة أن يكون الاكتظاظ نتيجة »البلوشي« دون غيره من العوامل الأخرى، ولم لا يكون نتيجة خلل التوازن الإداري أو في طاقة الاستيعاب أو بعض التقصير من لدن الجهاز الطبي ذاته، لاسيّما أعوان التمريض على أنّ تأمين حق المواطن في الصحّة سواء كان قادرا على القيام بتكاليفها أو غير قادر كما أشار القانون المتقدّم ذكره، وإن لم يتعرّض إلى مبدأ »المجانية« كما هو الحال في التربية والتعليم والتكوين، مكتفيا بضبط الأصناف وتحديد الكلفة لكلّ صنف كما تقدّم ذكره. فيما كانت الصحة تشكل الضلع الثالث من كينونة كرامة المواطن المتمثلة في نفي ما يعرف بالثلاثي المركب (الجوع- المرض والجهل) وهو المجسّد الصميم للمفارقة بين عهود الاستعباد والاستقلال ومعنى ذلك أن البعد المادي في اكتساب حق المعالجة بالمؤسّسة الصحّية العمومية غير مشروط على من يمتلك... والمفروض أن يعادل مقاعد الدراسة ومواقع الشغل...
على أن ذلك الاكتظاظ الذي تقدّم الحديث عنه ليس مطّردا في جميع المستشفيات العمومية بنفس الكثافة فهناك مستشفيات نوعية مثل »المستشفى العسكري، والقصاب، والمنجي سليم بالمرسى، وسهلول بسوسة، والأمراض الصدرية بأريانة فيما أذكر« تلك الأعراض التي لا يكون الاستقبال بها آليا وحسب طاقة الاستيعاب، وإنّما عن طريق الإحالة والتوجيه من قبل المؤسسات العمومية الصحّية، ومن الأطباء الخواص في إطار الاختصاص للفحص والإقامة على السّواء (فيما أعلم).
واعتقادي أنّ هذا النظام الجزئي والناجع في سير عمل تلك المستشفيات النّوعية قد يكون السبيل الأوفق للحدّ من ذلك الطوفان المريع لقاء الاهتمام بالأمراض الفعلية والتركيز على الحالات ذات الأولويّة الحقيقية، وفي المقابل ضرورة النّظر في إمكانية توسيع آفاق المستوصفات والمستشفيات المحلية لاحتضان الأصناف من نوع البطاقات (عدد2) بكل ما يستوجب نجاعتها من الإمكانيات المادية والفضاءات المعمارية وفتح الباب خاصة في وجه من يمكن استقطابه من الكفاءات أو آلاف العاطلين من خرّجي الكلّيات الطبّية عندنا الذين يشكّلون انخراما مفزعا للتوازن بين طاقتي الإنتاج الجامعي في قطاع الطب وطاقة الاستيعاب لدى القطاع العام والخاص أيضا لهياكل الصحة العمومية وكذلك حاجة المجتمع إذ كان الانتصاب الخاص كعيادات فردية أو مؤسّسات صحّية فرديّة أو جماعية، ولا ضير والحال تلك أن ندعو إلى إعادة النظر في التوجيه الجامعي الطبي واختصاصه حسب حاجة المؤسسات العمومية والقطاع الخاص بأنواعه في اتجاه قيام توازن حقيقي وخلاّق بين القطاعين.
في التوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص
وفي تصوّري أنّ مثل ذلك التوجّه قد يحدّ من غلواء طوفان ساحق ينهل من دماء الأبرياء وليس الأثرياء وحدهم أعني ذلك القطاع الطبّي الخاص سواء منه أصحاب المؤسّسات الفرديّة أو التجمعات والشركات أو أهل الاختصاص الدقيق الذين قد تربو أجرة زيارة بعضهم على نصف أجرة ذي الأجر الأدنى المضمون، هذا القطاع المتولد في الأصل والواقع عن القطاع الصحّي العمومي بسبب الواقع السيئ الذي تناولنا جوانب من مظاهره في الصفحات السابقة وفي مقابلة سابقة (3).
ولعلّه من الضروري أن نتوقف قليلا عند صنف التجمعات أو الشركات، المبنية على مسلك تجاري بحت أطلق عليه "الاستثمار" في صحّة الإنسان والذي يأتلف من مساهمات رؤوس الأموال المتوحشة ومن البنوك الخاصة والشركات الاستثمارية والتي تناسلت تركيبته الهيكلية مهنيّا وحتى إداريّا من القطاع العام (خبراء، أعوان، متقاعدون)، وهي تركيبة أو توليفة تلوي على كثير من المزالق والمهالك ولاسيّما في المجتمعات النامية ذات البنية الطبقية المختلفة وتلبس الرّؤية في صميمها أكثر مما هو الحال في قطاع التربية والتعليم. وهو مسار يصبّ في نظري في محق الطبقة الوسطى للمجتمع عندنا التي تشكّلت بعد الاستقلال وتنامت خلال عشرية الستينات والسّبعينات بفضل توجهات البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل.
فالمعلوم أنّ الأغلبية المطلقة من المصحات الخاصة في بلادنا بقدر ما تتوفر عليه من البهرج ومن مناخات المؤسسات السياحية التي تقوم على حساب المريض وبأضعاف أضعاف قيمتها الحقيقية، بقدر ما هي خاوية من الآليات والأجهزة الإلكترونية العالمية [حسب قول بعض المتعاونين من الأطباء] الأحدث التي تمتلكها المستشفيات العمومية وأنّ جلّ ما تستخدمه تلك المصحّات من الكوادر الطبية ذات القيمة العالمية أو ذات التجربة والمهارة في مختلف الاختصاصات لا يعود إليها بصفة إدارية، وقارة ولكنّهم خواص أو موظفون لدى القطاع العام يستجلبونهم عند الحاجة مقابل أجرة عن مهمة وقتية معلومة كما هو الحال بالنسبة إلى المدارس الخاصة ذات تعامل تجاري محض في كلا القطاعين الصحي والتربوي... موضوعه الإنسان مريضا أو متعلّما... يتكبّدان بموجبه مبلغا تنهبه المؤسسة التجارية الخاصة وتخصم منه أجرة الطبيب.
وحينئذ فالمصحة الخاصة في جلّ الأحوال تلعب دور الوسيط بين الطبيب والمريض على مستوى العلاج حيث لا تستقطب القارين من الأطباء والممرّضين إلاّ القليل فيما تستأثر بربح الإقامة الذي يتجاوز قدره ثلاثة أو أربعة أضعاف القيمة الحقيقية (كما تحدّثت بعض المصادر من المؤسسات ذاتها) وفي العلاج والإقامة تنصب حيل ومغالطات وسرقات في احتساب الفواتير، وتقدير الخدمات حتى حصّة التلفاز ومجرّد مرور الطبيب على سرير المريض دون أن ينبس ببنت شفة أحيانا وتعمّد نقلة المريض إلى غرفة الإنعاش دون موجب طبّي (كما حصل مع زوجتي) بمصحّة تتحلّى باسم »الأمان« الأمر الذي قد يصحّ أن ننعت الكثيرين من أصحاب تلك المصحات وبعض الأطباء والأعوان الإداريين المتعاملين معهم بقلّة الثّقة وبغياب القيم الإنسانيّة والمهنيّة لديهم وحتى البعض من ذوي العيادات أيضا.
أذكر على سبيل المثال مواطن من إحدى مدن الساحل كان موظفا متقاعدا في سلك حكومي حساس وهو من أسرة محترمة في المدينة لقي حتفه في إحدى المصحّات الخاصة امتنع صاحب المؤسسة من تسليمه إلى أهله حتى يكتمل دفع ما بقي بذمّته من التكاليف وقضي ليلته وبعض يومه في ثلاجة المصحّة حتى تمكّن أهله من سحب المطلوب من البنك في غداة اليوم الموالي (فيما بلغني).
هذا من جانب ومن جانب آخر هناك صنف من الاختصاصيين الموظفين الرّسميين بالمستشفيات العموميّة يخوّل لهم القانون (فيما علمت) بأن يقوموا بإجراء عمليات جراحية بالمصحات الخاصة ولكنّهم لا يتورّعون في توجيه مرضاهم [من ميسوري الحال] إلى إجراء العملية بالمصحّة الخاصة نصيب الطبيب منها معروف وقد عشت شخصيا عملية من هذا النّوع لمريض من بلدة المعمورة، وجهه طبيبه من مستشفى صالح عزيز إلى مصحّة خاصة فبض منها الشيء الفلاني...
ولمّا تساءلت عن هذه الصيغة قيل لي أنّ رؤساء الأقسام ينفّلون قانونا بربع أمسيتين لحسابهم الخاص ولكن البون شاسع بين الصيغتين حيث أنّ رؤساء الأقسام يجمعون بين الإدارة والعمل الطبّي كمباشرة زملائهم. وأغرب من ذلك استغلال أجهزة القطاع العام لا تتوفر على احتوائها المصحات الخاصة والتجمعات الطبّية في توجيه مرضاها إلى إجراء العمليات الدّقيقة بالمستشفيات العمومية والنوعيّة منها بالخصوص وذلك عن طريق جراحين يتعاملون معها.
ومعنى ذلك أنّ القطاع الخاص قائم على امتصاص دماء الأبرياء من ناحية وعلى استغلال القطاع العام بشريا) اختصاصيين وكوادر وتجهيزات وفضاءات عمليات من ناحية ثانية).
وعلى ذلك لا نرى وجودا لأي توازن بين القطاعين كما ذكرنا بل هناك مفارقة عجيبة في الكنه والوجهة والغاية منشؤها ومبعثها في اعتقادنا هو واقع القطاع العام من حيث الكثافة والاكتظاظ من ناحية وسوء المعاملة من قبل أغلبية أعوان التّمريض كما تقدّم، وذلك منزلق رهيب (في تصوّرنا).
وفي يقيني أنّ وزير الإشراف الحالي الأستاذ المنذر الزنايدي على ما نعلم من حزمه وعزمه وكفاءته الإدارية العالية وخبرته في إحكام التنظيم الهيكلي عبر المواقع السّامية التي مرّ بها والمهمات التي اضطلع بها، نراه والمجموعة التي حوله من الكوادر الواعية والمتجذرة في الميدان كالاستاذة الماطري ومن إليها من المباشرين للشؤون الادارية والماليّة. وقد أخذت بالكثير من بعضهم كالسيدين مدير الشؤون الإدارية والمالية بمستشفى الرّازي ومدير التجمع الصحّي بمنوبة حاليا كفيلا بتعديل تلك التوازنات في ظل التنسيق والتكامل مع الهياكل ذات الصلة إذا ما تمّ الاقتناع بالتزام التخطيط العلمي ومراجعة الهيكلة العامة للمنظومة الصحّية ككل في اتجاه التوازن بين الطبقات الثلاث الوسطى والضعيفة والمحظوظة.
استنتاجات ومواقف
وبعد يمكن أن نستنتج من خلال الفرضيات التي تقدّم طرحها في محاولة النّظر في مدى الأبعاد التي انتهى إليها ذلك الإصلاح الهيكلي في حيز الممارسة الميدانيّة فيما طمحنا إليه من تبيّن مسار جملة من الجوانب لواقع المنظومة الصحّية الرّاهنة عندنا حاليا في مستوى التوازنات الإنشائية التي أدركها ذلك الإصلاح، حسب المنهج الذي اعتمدناه (التحليل والنّقد) يمكن أن نستنتج ما يلي:
1) يبدو أنّ السّعي إلى تحسيس المواطن وجوديا بحجم التكاليف التي تنهض بها الدّولة وبالتالي المجموعة الوطنية في تأمين حق المواطن في الصحّة بهذا الوجه أو ذاك حسب ما جاء في الفصل الأول من القانون المتقدّم ذكره قد سجّل بعدا لا يستهان به وذلك عن طريق ما حدّده القانون من مساهمة في كلفة العلاج حسب قدرات الدخل لكل منتفع في إطار أصناف مضبوطة، ومن مظاهر الرقي ما تبلور عن جدليات توحيد الصناديق الاجتماعية للتأمين على المرض سواء لدى الأطباء أو المنتفعين والذي تمخض عن تنظيم موحد هو »الصندوق الوطني للتأمين على المرض« (الكنام) وإن لم يكن محل إجماع كلّ الأطراف إنّما يبدو أنّ الطّبقة الوسطى قد مسّها جانب من التعديل ولاسيّما في مستوى أجرة الطبيب فضلا عن الطبقة ذات الدّخل المتواضع جدّا.
2) أنّ هذا الإصلاح في حيّز الممارسة الميدانية فيما يبدو قد اصطدم بتحديات أو بالأصحّ بتناقضات منها ما هو خارج عن نطاق وزارة الإشراف، ويتصل بعضها بنسق توجهات التخطيط المركزي من حيث المفهوم لكنه الغايات الأساسية وعلاقتها بالجانب الإنتاجي والاجتماعي... كالرّبط بين الخريجين من الكليات الطبية عندنا وطاقة الاستيعاب لدى القطاعين الصحيين العام والخاص، وبالتالي حاجة المجتمع ككلّ بصرف النّظر عن انتظارات فرص التسويق.
وعلى ذلك نستنتج انخراما مشطّا في التوازن بين العرض (جموع الخرجين المتأثر بنظام سهولة انتاج ذوي الشهادات العليا) والطلب حاجة المجتمع ككل. كما نستنتج انتفاء للتكامل بين القطاع الصحي العام وبين القطاع الخاص حيث يبدو عنف التصادم بين القيم الالتزامية والإنسانية التي جاءت في مقدّمة ذلك القنون وبين الجشع التجاري وبين المغالطة والابتزاز للمريض بل واستغلال إمكانيات القطاع العام غير المتوفرة لدى الخواص.
3) على أنّه لا يجوز أن نغض طرفا عن التحديات التي تواجه ميزانية الدولة في مناخ »العولمة« ومن المنافذ على استقلالية القرار الاقتصادي والتنموي لبلدان العالم الثالث بانتهاج نظام الخوصصة، وتفتيت القطاع العم وتحرير الأسعار وفتح باب التوريد على مصراعيه والتشجيع المفرط على الاستهلاك وتوسيع آفاق قطاع الخدمات حتى الهامشية منها كالسماسرة، والوسطاء على حساب الإنتاج الذاتي، أعني التأسيس على الموارد الوطنية الثابتة في بلادنا مثلا... كالزراعة والصّيد البحري وتربية الماشية والإنتاج الغابي كما هو الحال في البلدان السكندينافية في تجمعات انتاجية كالتي حطمت وشوهت عندنا لترك مكانها لتلك التجمعات التجارية الأجنبية الغازية الضخمة [كارفور الشامبيون جييون].. التي تعكس مبلغ الثراء الفاحش لدى روّادها ومدى التقارب الطّبقي الرّهيب الذي برز في بلادنا، فضلا عن قصور حي النّصر، وما يشابهه في سوسة الشمالية، وسيدي منصور، والشابة، والمحرص بنابل، وقصور الاصطياف بالحمامات. وفي المقابل يبلغ عدد المترشحين لمناظرة الكفاءة للتدريس مائة ألف أستاذ؟ ولا نعلم من قد ينجح من بينهم (قيل 160 مترشحا!).
ولعلّ ما يثلج الصّدر ما يتواتر من الإعلام عن عودة العزم على استئناف سياسة التجمعات الإنتاجية في القطاع الزراعي ولم لا يكون التجاري والصناعي؟...
4) في هذا السياق يتنزل القول في مجانية الصحة التي نصّ الفصل الأول من قانون الإصلاح على أنّها حقّ لكل مواطن في أحسن الظروف الممكنة، كالتربية والتعليم والشغل وهي الأركان الثلاثة التي انبعثت وتجذّرت بعمق وشموليّة وجدوى على أنقاض رحيل عهد الاستعمار التي وسمت في غضونه بالثالوث المركب (الجوع المرض والجهل) وجسّدت بمصداقية عالية معنى المفارقة البليغة بين الاستعمار والاستقلال الوطني، كما جاء في دباجة الدستور وتصدّر هذا البعد لتلك الأركان الثلاثة جميع القوانين والبرامج الإصلاحية والمحطات الاستشفائية الميدانية.
وقد شكّل واقع الصحّة لدى شعبنا في مجمل عهود الاستعباد والاستعمار الفرنسي الذي جاء للنهوض والتمدين والعدل والرّفاهة، شكّل في الحقيقة والجوهر أبشع صورة لمكابدة المواطن من جحيم الأوبئة الفتاكة مثل الكوليرا، الحمّى، الرّمد، الجذري، الجذام، والقملة، الجرب، والسلّ...الخ، سواء في المدن أو القرى أو الأرياف والبوادي، وفي تزجية الرّغبة في المقارنة بين ذلك العهد وبين ما نعيشه اليوم يكفي أن نطالع ما جاء في الحديث المتواصل للسيد أحمد بن صالح بجريدة الشروق [بتاريخ 26نوفمبر 2009] الذي قاد جهود بعث الثورة الصحية في بلادنا تواصلا مع مجهود سلفه الزعيم الخالد الدكتور محمود الماطري.
ومعنى ذلك أنّ النضال المرير من الدّعم السّخي والدّيمومة الأبدية من قبل كلّ الأجيال لتلك الأركان الثلاثة على الوجه الذي قامت عليه ضرب من الجهاد الأكبر إذ هي صمام الوجود الأفضل للوطن والمواطن لا تختلف في شيء عن الماء والهواء إنّما لا نقول نعم لحتميّة ترفيع نسبة ذوي الثروات الطائلة على أنّها القوّة القادرة على دحر ذلك الثالوث وهي القلّة التي انتعشت بربع سوق العولمة، ويشتدّ عودها باطراد في التهام الطبقة الوسطى كما يتراءى في تغوّل القطاع الخاص على الميدان الصحّي مثلا.
1) وقد نشرت جريدة "الشروق" معلومات وافية في مقال جيّد. .. في غضون ربيع 2008.
2) عن السيد مدير الشؤون المالية والإدارية بمستشفى الرازي.
3) انظر الجزء الثاني من كتابنا المؤتمر السادس للاتحاد العام التونسي للشغل، المطبعة المركزية، تونس 2003.
4) إلى جانب تدخل راق للمؤرخ التونسي الكبير الدكتور علي المحجوبي، بالندوة الوطنية للاتحاد العام حول الحركة النقابية خلال الفترة 1956-1952)الندوة الوطنية للتكوين وللتثقيف العمالي 8 ديسمبر 2009 وكذلك المدرّس والباحث الاقتصادي المرموق الدكتور حسن الديماسي حول البرنامج الاقتصادي للاتحاد العام التونسي للشغل دوافعه وتأثيراته، بنفس التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.