هي حروب العواصم الكبرى على جزء من الأراضي العربيّة، فبعد أن باتت ليبيا جزءا من مُكاسرة الروس مع الأتراك مع باقي اللاعبين الساعين إلى التموقع في البحر المتوسّط، بيضة القبان من الغاز الطبيعيّ، هاهي العراق تصير ساحة لتصفية الحسابات المُباشرة بين واشنطنوطهران وصندوق بريد للرسائل الناعمة والخشنة. في ليلة القبض الأمريكيّ على قائد فيلق القدس قاسم سليماني، والذي قضى نحبه رفقة أبو المهدي المهندس نائب قائد الحشد الشعبي العراقيّ، كان محيط مطار بغداد شاهدا على تطوّر دراماتيكي في المُكاسرة الإيرانية الأمريكيّة.
بعيدا عن الخطاب المناهض للدور الإيرانيّ والذي يعتبر في تصفية قاسم سليماني اصطيادا لعرّاب الدمار في الحدائق الخلفية لآيات الله، وبمنأى أيضا عن الخطاب المتماهي مع طهران والذي يرى في استشهاد سليماني فاتورة الحرب المقدسة الإيرانية ضدّ "الطاغوت والاستكبار الأمريكي".
يُفترض التحليل العميق مُلامسة، للرسائل الأمريكيّة الحقيقيّة من وراء هذا الاغتيال المعلن والذي تغنّت به المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية ممثلة في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي غرّد لمرتين خلال أقل من ساعة واحدة احتفاء بنجاح العمليّة.
الرسائل الأمريكية كامنة في 7 رسائل كبرى وهي كما يلي:
1- أنّ أمريكا تتعامل مع أحداث اقتحام سفاراتها في الخارج كاعتداء صريح على الأراضي الأمريكية وهي في هذا السياق لا تتردد في ملاحقة المعتدين، لا ننسى حادثة اختطاف واشنطن للقيادي السلفي "أبو أنس الليبي" في 5 أكتوبر 2013 بعد اتهامه بالضلوع في تفجيرات السفارة الأمريكية في نيروبي ودار السلام عام 1998، إضافة إلى اختطاف القيادي أحمد أبو ختالة المتهم الأبرز بحادثة اقتحام القنصلية الأمريكية في بنغازي واغتيال السفير الأمريكي في 11 سبتمبر 2012.
2- أنّ واشنطن تفرض معادلتها العسكريّة في العراق مع إيران وتريد أن تكون لها اليد الطولى والكلمة النهائية، فواشنطن لم تستسغ ردّ الحشد الشعبي الذي تتهمه بالولاء لإيران على هجومها ضدّ أفراده من خلال اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، الأمر الذي استوجب ردا ثانيا نوعيا.
3- أنّ واشنطن تتعامل مع الساحة العراقيّة كحديقة خلفيّة لإيران، وتتمثل الحشد الشعبي كجيش رديف للقوات العسكرية العراقية وقوّة ملحقة بفيلق القدس.
4- أنّ إدارة ترامب، جادّة في مواجهة طهران، في حدودها القومية وفي جغرافيتها التوسعيّة، سيما تلك التي أمنتها خلال العقود الثلاث الأخيرة والمستوعبة للعراق والشام ولبنان.
5- أنّ العقوبات الاقتصادية ضدّ طهران ليست هي "المواجهة"، بل هي جزء من المواجهة، والتي تتفرع أيضا على وجوه أخرى من بينها الوجه العسكري غير المباشر.
6- رسالة داخلية إلى الجمهور الانتخابي الأمريكي بأنّ ترامب هو رجل الحرب والاقتصاد والسلم، وهو ما يعجب قطاعات كبيرة من الشعب الأمريكيّ.
7- رسالة إلى الكونغرس ومجلس النواب، بأنّ سحب الثقة كان الأولى به، الرئيس باراك أوباما الذي سمح لإيران بالتمدد العسكريّ وبشرعنة المشروع النووي، وليس هو الذي لجم إيران نسبيا وضيق عليها الخناق وضربها في مقتل.
السؤال المطروح اليوم، هل اختارت واشنطن هذا التوقيت لتوجيه ضربة مؤلمة للمؤسسة العسكرية الإيرانيّة، قطعا نعم، فواشنطن تقاطعت بشكل ذكي مع المطلبية الشعبية في لبنان بضرورة رفع يد القوى الإقليمية وعلى رأسها إيران من البلاد، ومع الحراك الشعبي العراقيّ الرافض للنفوذ الإيراني القويّ والمؤثر، ومع الأصوات المجتمعية والسياسية داخل إيران المُطالبة بكفّ التدخل الإيراني في البلدان الأخرى، سيما وأنه تدخل جدّ مكلفّ اقتصاديا ومن الأولى أن يذهب إلى الاستحقاقات الاجتماعية الإيرانية.
وهُنا بالضبط تكمن أهمية استهداف قاسم سليماني، باعتباره نقطة التقاط المشهديات الاجتماعية اللبنانيةوالعراقيةوالإيرانية الرافضة للتدخل الإيراني في الشرق الأوسط.
بيد انّه وفي خضم الحسابات الأمريكيّة يبدو أنّ حسابات أخرى سقطت من حسبان الفاعل الأمريكيّ أو على الأقل الدائرة الضيقة صاحبة القرار باستهداف قاسم سليماني وأبو المهندس، لعل من بينها أنّ دولة العراق لن ترضى –مؤسساتيا على الأقل – ان تكون أرضا مستباحة بهذا الشكل من الأشكال وأن يكون استهداف "الحشد الشعبي" وهو مؤسسة معترف بها، بهذه الطريقة المخزية للدولة ولمفهوم السيادة وإن كانت للدولة العراقية أكثر من نقطة استفهام حول الحشد الشعبي وإن كانت لها أيضا أكثر من نقطة التقاء وتفاهم مع واشنطن، فما هكذا يتعامل الحلفاء والأصدقاء...
أسقطت واشنطن من حساباتها أيضا الردّ العكسيّ الشعبيّ العراقيوالإيراني على الأقل،على الهجوم، وإمكانيات أن يرمم الحشد الشعبي معنوياته وصورته ومناقبيته لدى الجمهور العراقي.
سقطت أو أسقطت واشنطن من حساباتها، ردود الأفعال اللبنانيةوالعراقية والسورية واليمنية الممكنة، فالوجود العسكري الأمريكي متفرع بدوره في سورياوالعراق وفي بحر الخليج، وليس طهران فقط من تدعم الميليشيات فواشنطن بدورها تدعم الميليشيات الكوردية في سورياوالعراق.
لا أحد يريد الحرب في الشرق الأوسط، بمن فيهم حلفاء واشنطن أنفسهم في الخليج العربيّ، فهم يراهنون على تضييق الكماشة الاقتصادية والسياسية وتسخين الجبهة الداخلية وإثارتها سخطا وغضبا، ولكن في المقابل لا يريدون حربا ومكاسرة مباشرة مع طهران حيث أنّ المنطقة هي التي ستشتعل بالشجر والحجر والبشر، ولا يبدو ايضا أنّ الدول التي استعصت عليها ميليشيات شيعية حوثية قادرة على إسقاط قوة إقليمية كبرى مثل إيران.
الوارد أيضا أنّ إيران ستردّ، وفق مؤشري التناسب والتوازن، التناسب في الدماء المسالة، والتوازن من خلال السعي إلى عدم إيصال المنطقة إلى حافة الهاوية... فالكلّ سيخسر من الهاوية ومن حافتها أيضا...