بقلم مختار الخلفاوي بمنظور السقف العالي للحقوق والحرّيات الذي دشّنه الرابع عشر من جانفي 2011، فإنّ تونس تعيش أيّاما حالكة السواد في ما يخصّ حرّية الضمير والصحافة والتعبير. الحكم على الشابّيْن جابر الماجري وغازي الباجي بالسجن سبع سنوات بتهمة الإساءة إلى المقدّسات على شبكة التواصل الاجتماعيّ، والحكم على شابّ بتهمة "عبادة الشيطان" – كلا الحكميْن يعتبر ضربا في الصميم لحرّية الضمير المكفولة (ولو في مشروع الدستور) ما لم تؤدّ إلى الحثّ على التعصّب والكراهية والعنف. سلسلة التضييقات تطول من إيقاف سليم بقّة صاحب جريدة "الجرأة" (L audace) في ظروف غامضة، إلى سجن السينمائي نصر الدين السهيلي لقذفه وزير الثقافة ببيضة، إلى إيقاف مصوّر قناة "أسطرلاب" على الإنترنيت مراد المحرزي بتهمة التآمر لتصوير العمليّة، إلى محاكمة الطاهر بن حسين صاحب قناة "الحوار التونسي" بتهمة الدعوة إلى العصيان وقلب نظام الحكم، إلى التضييق على الصحفي سفيان بن فرحات، إلى الزجّ بزياد الهاني في السجن لثلاثة أيّام دون وجه حقّ، إلى المولدي الزوابي الصحفي في قناة "الحوار التونسي" وفي راديو "كلمة" الذي يقف اليوم الثلاثاء أمام القضاء بسبب كشفه قضيّة فساد تعود إلى سنة 2010 ( !!). كلّ هذه المؤشّرات هي بمثابة الفضائح السياسيّة في وجوه حكّام ما بعد "الثورة". ولكنّ "أمّ الفضائح" التي لو حدثت في بلد يقوم على "الحوكمة الرشيدة" لاستقال المسؤولون عنها وبلا إبطاء هي الفضيحة المتعلّقة بوثيقة الاستخبارات الأمريكيّة ( CIA). نحن بحاجة أحيانا إلى التذكير والتفصيل، فهجوم الحوادث يوميّا علينا يعوق ملكة التفكير والتدبير. – بتاريخ 14 جويلية 2013 وردت على مصالح إدارة الأمن الخارجيّ مراسلة من جهاز المخابرات الأمريكي فيها إفادة بإمكانيّة اغتيال الشهيد محمد البراهمي من قبل عناصر سلفيّة. – رغم أهمّية المصدر، وخطورة المعلومة لم تبادر إدارة الأمن العمومي بإعلام وزير الداخلية بحسب روايته ورواية مدير الأمن العموميّ. - لم تتفاعل وزارة الداخليّة مع الإفادة ولو بمقدار الحدّ الأدنى. والحدّ الأدنى يعني توفير حماية للشخص المستهدف، وإن كانت حماية عن بعد. - الأمن يداهم قبل ثلاثة أيّام فقط من اغتيال الشهيد البراهمي يوم 25 / 7 / 2013 المنزل الذي يوجد فيه أبو بكر الحكيم المتّهم المباشر في عملية الاغتيال. وهو منزل بجهة حيّ الغزالة لا يبعد أكثر من 300 متر عن منزل الشهيد. - في منزل المتّهم المذكور عثرت قوّات الأمن على أسلحة وذخيرة. ومع ذلك، لم تقم بالربط الممكن بين موضوع المداهمة وموضوع الإفادة الاستخباريّة. - يوما واحدا بعد اغتيال الشهيد البراهمي عقدت وزارة الداخلية ندوة صحفيّة قدّمت فيها المعطيات المتوفّرة لديها عن عملية الاغتيال. وبعد أسابيع وفي ندوة صحفيّة ثانية أعلنت وزارة الداخلية عن الجهة المنفّذة للاغتيال رسميّا. وقدّمت ما لديها من وثائق وفيديوهات ورسوم. ولم تكن الإفادة الاستخباريّة من بينها ولو على سبيل الإيحاء. - بعد كشف هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عن الوثيقة الاستخباريّة، اعترفت وزارة الداخليّة بوجودها منذ 14 جويلية أي قبل أحد عشر يوما من عمليّة الاغتيال. - يعترف وزير الداخلية بوجود الوثيقة الاستخباريّة، ولكنّه ينفي علمه بها في تاريخ ورودها على مصالح وزارته. أمّا مدير الأمن العمومي فيعلّل عدم إحاطة الوزير بأنّ مصالحه الأمنيّة تكفّلت بالبحث في الإفادة. وحين لم تجد ما يدعم "جدّيتها" آثرت أن لا تخبر المسؤول الأوّل عن الوزارة. أمام هذه الحلقات الغامضة والمريبة، خرج مِن أوساط الحكم مَن يطالب بفتح تحقيق في… من سرّب الوثيقة لا التحقيق في المسؤول عن عدم الأخذ بما في الوثيقة. لم يقع التعاطي بوضوح وبشفافيّة مع الموضوع، ومع المعلومات الأمنيّة الخطيرة الواردة في الندوات الصحفيّة التي عقدتها نقابات الأمن وموظفي وأعوان السجون. وفي هذه الندوات سلّة من المعلومات الخطيرة التي تستلزم التحقيق والدحض بالأدلّة لو اقتضى الأمر، ومصارحة المواطنين حولها لا تهديد النقابات الأمنيّة والسجنيّة والسعي إلى تكميم الأفواه وصولا إلى الزجّ بأحد هؤلاء النقابيين وهو وليد زرّوق في السجن. نعم. التضييق على حرّيات الضمير والصحافة والتعبير هو حديث الساعة. ولكنّ هذه التضييقات، في المحصّلة، ليست إلاّ ظلالا لشجرة الزقّوم التي تخفي غابة من الشّكوك والظنون والرّيَب. عبر كبت الضمير، أو كسر آلة التصوير، أو إغلاق قناة، أو إلجام قلم، أو قطع لسان، يُراد للجريمة أنْ تمرّ دون شهادة ولا شهود. عبر ذلك، يُراد للتونسيّين أن يكونوا مواطنين صالحين وظيفتهم الوحيدة التسبيح بحمد الحكومة، وتصديق رواياتها كما يصدّقون روايات الأنبياء والآلهة. والمواطن العاقّ الذي يشكّ ويتساءل وينكر يقع جرّه إلى القضاء. الحكومة تقول إنّها لا تكذب، ولكنّها تتجمّل. فلماذا، إذن، تريد منّا أن نقول للقصير انحنِ لنبوسك، وللأعمش فَتَنتْنا العيونُ اللّواحظ !؟