تمّ يوم 30 جوان الماضي تسمية الصحفي عبد الرزاق الطبيب رئيسا مديرا عاما لمؤسسة الإذاعة التونسيّة بعد أن أبدت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري رأيها المطابق في الموضوع، وكان قد تمّ يوم 16 جوان الماضي تعيين الأستاذ مصطفى بن لطيف بنفس الخطة على رأس التلفزة التونسيّة ووفق الآلية نفسها. وإن كان عدد من الملاحظين يعتبرون هذا التعيين بمثابة "الهدية المسمومة" نظرا لحجم الرهانات المطروحة أمام الوافدين الجديدين على هذه الخطّة أشهرا قليلة قبل الانتخابات و في وقت لم تتخلص فيه المؤسستان نهائيا من الإٍرث الحكومي ، فإن نشطاء حريّة التعبير ينظرون إلى هذه التسمية بكثير من الارتياح. فعبد الرزاق الطبيب الذي قضى سنوات هامة في قسم الأخبار بالتلفزيون التونسي تدعمت بعمله كمراسل لتلفزيون "فرنسا 24"، لم تمرّ تجربته في قيادة النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بعد الثورة بعيدا عن الأنظار حيث تمّ خوض معارك هامة دفاعا عن حريّة الإعلام و مقاومة كل السياسات و الأساليب لتطويع "المرفق العمومي" و التحكم في الصحافيين و توجيه المضامين الإعلاميّة توجت بإضرابين عامين. أما مصطفى بن لطيف القادم من خلفيّة قانونيّة فلم يكن غريبا عن القطاع الإعلامي حيث كان رئيسا سابقا لمجلس ادارة دار الصباح (ديسمبر 2011 – أوت 2012)، وعضوا سابقا بلجنة الخبراء بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مكلفا بملف اصلاح الاعلام السمعي والبصري، كما اشرف على اعداد المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011 و المتعلق بحريّة الاتصال السمعي البصري و بإحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.كما تميّز بكتابة دراسات و المساهمة في ندوات تتعلق بمواضيع "المرفق العمومي" و"التعديل السمعي البصري"، وبحضور عديد اللقاءات و التظاهرات و التحركات من أجل الدفاع عن حرية التعبير في تونس. غير أنّ الإطمئنان النسبي للشخصيتين المذكورتين المرتبط بخلفيتهما النضاليّة والحقوقيّة لا يمنع ضرورة اليقظة تجاه تعاطيهما المستقبلي مع المهنة الصحفيّة و فضاء الحريات الذي تدور في فلكه و هو ما عبرت عنه عديد المنظمات المعنية بالإعلام من تونس و خارجها بقيادة منظمة الفصل 19 من "أنّها ستظل يقظة، خاصة فيما يتعلق بالحاجة إلى إجراء علمية إصلاح عميقة لمؤسسة التلفزة التونسية (وكذلك الإذاعة-من المحرر)عبر تعبئة وتوحيد جميع العاملين فيها والمنظمات النقابية، الكل من أجل تكريس الشفافية واحترام التعددية الإعلامية". فالمسؤولان الجديدان سيجدان أمامهما تركة ثقيلة من الممارسات المقيدة للحريات الصحفيّة لم تستطع مناخات الثورة أن تلغيها، أوّلها مواصلة التدخل الإداري في التحرير لم يسلم منه المديرون و المديرون العامون السابقون و الذي يأتي أغلبه لخدمة أجندات سياسيّة وسلطويّة محددّة، وثانيها إستمرار الممارسات الرقابيّة على المحتويات الإعلاميّة داخل غرف الأخبار سواء عبر تعليمات إداريّة أو من خلال إستبطان ممارسات قديمة في ظلّ مناخ من الخوف و الشك، وثالثها تواتر الحديث عن قوائم حمراء لشخصيات سياسية وحقوقيّة ونقابيّة وصحفيّة يمنع إستدعائها لبرامج المؤسستين. وكان من شأن هذه الممارسات أن عزّزت الرقابة الذاتيّة للصحافيين فأنخفض منسوب الجرأة في تناول القضايا الحارقة والمصيريّة خاصّة مع قدوم حكومة مهدي جمعة حيث تمّ إستبطان خطاب الإنسجام والتوافق على حساب نقل أخبار الإحتجاجات ذات المحتوى الإجتماعي و الإقتصادي و التعتيم على تصريحات أصحابها و مسانديهم، والإرتكان إلى الخطاب الرسمي حول مكافحة الإرهاب على حساب دعم حرية النفاذ إلى المعلومات ونقد الممارسات القهرية و التخوينيّة التي رافقته. وبالتأكيد أنّ تجاوز هذه الممارسات ليس بالأمر الهيّن، بل يتطلّب الأمر مجهودات و مهارات في سبيل تطويقها و الحدّ من أثارها الكارثيّة ليس أقلها توفير الإحاطة المعنويّة بالعاملين في المؤسستين عبر ضرب واقع عدم الإنتماء إليهما الذي ترعرع طيلة السنوات الماضية وتشريكم في إدارة المحتوى من خلال إعادة الحياة إلى هيئات التحرير التي نشأت بعد الثورة وتلاشت لأسباب شتى. غير أنّ المعالجة ستصبح أكثر جدوى إذا إعتمدت آليات شفافة و موضوعيّة في الفصل بين الإدارة والتحرير، وفي إختيار رؤساء التحرير، وفي إصطفاء مقدمي النشرات الإخبارية و البرامح الحواريّة و السياسيّة. وستحدّد أهميّة أدوار المسؤولين الجديدين بمدى إنفتاحهما على الفضاء العام في مجتمع إنتقالي ليس فقط بالإلتزام بالسياسات التحريرية للمرفق العمومي القائمة على خدمة المصلحة العامة و تمثيل التنوع الفكري و السياسي والثقافي إضافة إلى الإستقلالية و الحياد والنزاهة و الموضوعيّة في التعاطي مع المادة الإخباريّة، بل أيضا بإيجاد آليات لتشريك سائر المواطنين وممثليهم في تقييم المحتويات الإعلاميّة و العمل على تمثيلهم بشكل عادل في المجالس الإدارية للمؤسستين. غير أنّ الطبيب وبن لطيف سيطرح عليهما إستعجاليا حلّ بعض المظالم التي تعرّض لها إعلاميون على خلفيّة محتويات إعلامية على غرار تلك التي تعلقت بآمال الشاهد و إيهاب الشاوش و عواطف المزوغي أو تلك التي أزيحت من خلالها شادية خذير من ترؤس قسم الأخبار بالتلفزيون الوطني بعد إجراء مناظرة بالملفات خضعت لها رفقة عدد من زملائها تحت إشراف ثلّة من الخبراء، وستعطي النجاعة والعدالة في حلّ هذه الإشكاليات وغيرها رسائل طمأنة مهمة ليس للعاملين في المؤسستين فقط بل لسائر المهتمين بالقطاع و العاملين في مجالات حرية التعبير.