انتقد الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي موقف المدير العام لمنظمة العمل العربي من الحراك الثوري الذي عاشته بعض الدول العربية وذلك خلال مشاركته في المؤتمر المنعقد بالقاهرة في مصر. وفي ما يلي النصّ الكامل لكلمة العباسي: ينعقد مؤتمر العمل العربي في دورته الواحدة والأربعين هذه السنة في جمهورية مصر العربية الشقيقة تحت شعار "التعاون العربي وآفاقه لدعم التشغيل". واسمحوا لي بداية أن أتوجّه بالشكر إلى المدير العام لمنظّمة العمل العربية السيد أحمد محمد لقمان على اختيار هذه القضية المصيرية محورا لتقريره العام في هذا الظرف التاريخي الذي تعيش فيه منطقتنا مَخاضات عسيرة بعد أن بَيّنت الثورات والانتفاضات وحركات التظاهر المدني التي شهدتها منذ ثلاث سنوات قصورَ بل فشلَ النماذج التنموية المعتمدة في تلبية استحقاقات الإقلاع الاقتصادي والرقيّ الاجتماعي والاستقرار السياسي، والتي وضعت قضايا العدالة الاجتماعية واستحقاق التشغيل والكرامة والحرية في قلب دائرة النقاش العام. السيد رئيس المؤتمر، السيدات والسادة، إنّ السياق الحالي للتغيير وللسيرورة الانتقالية يمثّل في اعتقادنا فرصة سانحة لمراجعة تلك النماذج الفاشلة واخضاعها للتشخيص والتقييم من قبل مختلف الأطراف المعنيّة، حكومات ونُخَب سياسية ومنظّمات مهنية ومكوّنات المجتمع المدني على اعتبار أنّ الحوار والتعاون هما الكفيلان بخلق التوافق والدفع إلى الانخراط المسؤول لمواجهة التحديات ولرفع الرهانات. لا أعتقد أنّ أحدا منّا يشكّ في أهمية العمل كعنصر أساسي في حياة الإنسان باعتباره المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي وللرقيّ الاجتماعي والمحدّد لِدَيمومة المؤسسة ولاستقرار الأسر والمجتمعات ولرفاهيتها. لكن لعلّكم توافقونني الرأي في أنّ ما نلاحظه اليوم في ظلّ سياقات العولمة النيوليبرالية المستشرية هو العجز في تأمين العمل اللائق وتفشّي الاقصاء متعدّد الأشكال: بطالة، ونقص في فرص التشغيل، وعمل قليل الجودة وضعيف القيمة المضافة، وغياب مفزع للحماية الاجتماعية والمهنية، وتدنّي للمداخيل، وانسداد لآفاق الترقية المهنية، وخرق للحقوق والحريات، وغياب للمساواة في المعاملة بين الجنسين، واستغلال مجحف ومهين للعمالة المهاجرة... لماذا كلّ هذا التقصير في تحقيق التوازنات الاجتماعية والاقتصادية وفي تلبية الاستحقاقات الضامنة للعمل اللائق المؤمّن للحماية والعدالة والمساواة، والمنمّي لثقافة المواطنة ولروح المسؤولية ولشغف البذل والعطاء؟ لقد أشارت الثورات والانتفاضات الشعبية العربية وبكلّ وضوح إلى أسباب ثلاثة تمثّل بدورها ثلاثة مداخل لتجاوز هذا العجز: "شغل - حرية - عدالة اجتماعية"، ثلاثة استحقاقات رفعتها الشعوب العربية المنتقضة في وجه أنظمتها كشروط متلازمة لأيّ إصلاح سياسي ولأيّ إقلاع اقتصادي ولأيّ استقرار اجتماعي. لنبدأ إذا من هنا، ولنتناغم مع تلك الاستحقاقات الثلاثة التي رفعتها تلك الشعوب ولنبحث برويّة في مدى استجابة النماذج التنموية المعتمدة في أقطارنا لتلك الاستحقاقات. لقد حاولنا اعتماد هذا التمشّي في تونس واهتدينا إلى بعض المداخل ضمّناها، بعد التحاور والتشاور مع الشركاء الاجتماعيين، في مشروع عقد اجتماعي أبرمناه تحت قبّة المجلس الوطني التأسيسي على مرأى ومسمع نوّاب الشعب. لقد سعينا في إطار الحوار الوطني إلى تأمين وتثبيت تلك الاستحقاقات من خلال العقد الاجتماعي الذي أمضيناه مع شركائنا الاجتماعيين وصلب نصّ الدستور الجديد لمأسستها وإكسابها الصبغة الدستورية تحت عنوان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي تضمّنت جملة من التوافقات، لعلّ أهمّها ضرورة مراجعة المنوال التنموي، ومراعاة التلازم الوثيق بين الرغبة في تطوير تنافسية المؤسسة وأحقية النهوض بالعمل اللائق. السيد رئيس المؤتمر، السيدات والسادة، أودّ في خاتمة كلمتي التوقّف عند أمرين اثنين وردا بشكل لافت في تقرير السيد المدير العام قوله أوّلا وبصريح النصّ أنّ "تفاقم البطالة يعود إلى المراحل الانتقالية التي تمرّ بها تونس ومصر وليبيا واليمن ... وإلى ما ينجرّ عن ذلك من تعدّد الإضرابات والاعتصامات والزيادات غير المدروسة في الأجور" نتج عنها، والكلام له، "تعطيل الحركة الاقتصادية وتراجع الاستثمار وعجز الموازنات وتخفيض التصنيف الانتمائي السيادي لهذه الدول...". إنّ هذه القراءة مجانبة للصواب وتبدو للأسف الشديد متعارضة مع إرادة شعوب الأقطار المذكورة التوّاقة إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهي قراءة تفنّدها الثورات الشعبية التي قامت تحديدا ضدّ البطالة المستفحلة وضدّ تضاؤل فرص التشغيل الناجمة عن المناويل التنموية العقيمة المعتمدة والمكرسة للهشاشة والإقصاء والتمييز والحيف الاجتماعي بل هي قراءة تبدو بمثابة التبرير المجاني لنماذج أثبتت الأحداث فشلها وإفلاسها وقلة مردوديّتها، نماذج أقرّت المؤسسات المالية الدولية ذاتها بمحدوديّتها في معالجة قضايا التنمية. لم نقرأ في تقرير السيد المدير العام أيّة إشارة لتغوّل التهريب والإرهاب وسيطرته على مسالك التوزيع وتمرّده على سلطان القانون وهيبة الدولة وتحكّمه في قُوتِ المواطنين واستهتاره بسلامتهم وصحّتهم. لم نقرأ في تقرير السيد المدير العام أيّة إشارة لتدهور القدرة الشرائية للأجراء ولضعاف الحال من العاطلين عن العمل والمفقّرين المرابطين في الأرياف وفي أحزمة المدن ولا أيّة إشارة إلى ضحايا أنماط العمل الهشّ الهجينة والمارقة عن القانون الذين يعانون من غياب الحماية وانسداد الآفاق المهنية وتدنّي المداخيل والحرمان من حقّ التنظّم والتعبير الحر. لقد كان حريّ بالسيد المدير العام التأكيد على مشروعية مقاومة الفقر والمطالبة بتحسين شروط وظروف العمل وبالتصدّي لكلّ ما يتعارض مع تشريعات العمل ومقتضيات معايير العمل الدولية. لقد كان حريّ بالسيد المدير العام التشديد على أهميّة التعاون والتضامن ضدّ الهيمنة ومصادرة سيادة الدول بدعوة البلدان الغنية في المنطقة لتقديم الدعم والمساعدة للدول التي تعيش مراحل انتقالية بما يعينها على تلبية استحقاقات شعوبها وبما يجنّبها السقوط من جديد تحت وطأة التبعية والشروط المجحفة لبنوك الاقتراض الأجنبية والدولية وبما يضمن سيادتها واستقلالية قرارها. نحن أحوج لقراءة استشرافية تأخذ بعين الاعتبار المطالب التي رفعتها الشعوب المنتقضة ضدّ الظلم والاستغلال والاستبداد والفساد، وتقدّم المداخل الرئيسية لصياغة بدائل لنماذج تنموية تكون حصيلة حوار شامل تشارك فيه كلّ مكوّنات المجتمع دون استثناء أو إقصاء. السيد رئيس المؤتمر، السيدات والسادة، يقول السيد المدير العام في مكان آخر من تقريره "أنّ التصدّي لظاهرة البطالة مرتبط أشدّ الارتباط بمقاربة تنموية في العمق تخرج عن المسالك المطروقة وبأنموذج اقتصادي يقوده القطاع الخاص بجرأة أكبر ومسؤولية اجتماعية أقوى...". إنّنا وإن نقرّ بدور القطاع الخاص في التنمية وفي توفير مواطن الشغل فإنّ الإقرار بدوره الريادي يبقى رهين قدرة هذا الأخير على تملّك مقوّمات المبادرة واكتساب الميزات التفاضلية الضرورية لتوفير القيمة المضافة ذات المحتوى التشغيلي الوفير والنجاعة الاقتصادية العالية وهو ما يتطلّب الكثير من التأهيل ومن وضوح الرؤية ومن المسك بمقاليد الحوكمة الرشيدة وهي متطلبات لا تزال غائبة لدى الجزء الأكبر من القطاع الخاص في أقطارنا، حيث أنّ الانفتاح واشتداد المنافسة قد أدّيا في هذه الأقطار إلى حشر رأس المال المحلّي إلى الانكماش وإلى التوجّه أكثر فأكثر نحو تكديس أغلب استثماراته في نشاطات التبادل والمضاربة عوض النشاطات المنتجة والمثمرة والمنافسة. لقد سبق وخبرت شعوبنا وصفات الانفتاح الاقتصادي المسقطة والقائمة على سياسات التحرير الاقتصادي وفتح الأسواق وعلى تقليص القطاع العام فكانت الخسارة على أكثر من واجهة: عشرات الآلاف من المسرحين والمحالين على التقاعد المبكّر في إطار إعادة تأهيل المؤسّسات العمومية قبل التفويت فيها لرأس المال الخاص المحلّي والأجنبي، وعشرات الآلاف من ضحايا التسريح الجماعي والغلق الفجئي للمؤسّسات الخاصة التي عجزت عن الصمود أمام المنافسة العالمية المتوحشة، أدّيا معا إلى إرهاق صناديق الضمان الاجتماعي التي أصبحت مهدّدة في وجودها. علاوة على ما حصل ويحصل من تبذير للمال العام في شكل حوافز وإعفاءات قليلة أو عديمة الجدوى غير خاضعة لا للمساءلة ولا للمراقبة ولا للمحاسبة. لقد أثبتت الأزمة العالمية المالية والإقتصادية التي لازالت تهزّ العالم ولم تقعده الحاجة الماسة إلى التعايش بين القطاعين العام والخاص في إطار التكامل والتعاون ولكن الحاجة أيضا وبالخصوص إلى دولة قوية وناجعة وجيّدة الأداء قادرة على دعم القدرات وتوفير الخدمات العامة تتوفّر لديها مؤسّسات قوية لمراقبة الأسواق وتتوخّى اندماجا حذرا ومدروسا في السوق العالمية ولها سياسات اقتصادية تساعد على النموّ السريع والمستديم وعلى إدماج الاقتصاد غير المنظّم في الدورة الاقتصادية ضمانا لشفافية التعامل ولقواعد التبادل الحر ولتوفير مستلزمات الحماية وشروط المنافسة النشيطة على قاعدة العمل اللائق. فلنعتبر بتجارب الماضي ولنستمع إلى نبض الشارع العربي ولنجعل من الحوار والتشاور والتوافق والتضامن سبيلا لمواجهة التحديات ورفع الرهانات. إنّها السبيل الأنسب والأسلم لاستقرار مجتمعاتنا وازدهارها ومناعتها.