العملية الإرهابية النكراء التي تعرض لها الراعي الشهيد الشاب مبروك السلطاني والمتمثلة في فصل رأسه عن جسده بطريقة لم نعهد مثيلا لها في بلدنا تمثل دون أدنى شك منعرجا خطيرا في الفعل او التحرك الارهابي. استهداف فئة جديدة من المواطنين الأبرياء وهم الرعاة في الجبال تؤكد أن الطوق الأمني التي تفرضه القوات الامنية والعسكرية على هاته الذئاب البشرية المتحصنة بالجبال قد بدأ يؤتي أكله. إن مرور هؤلاء المرتزقة الى انتهاج طريقة الكلاب المسعورة هي رد فعل «طبيعي» ومنتظر، اذ بعد ان اصبحوا عاجزين على استهداف العسكريين بطريقة مباشرة يعمدون الى نصب الكمائن عبر استهداف المواطنين والقيام بعمليات «نوعية» حتى يجلبوا انتباه الرأي العام اليهم ويبقوا، وكما أرادوا دائما، متصدرين للمشهد الإعلامي. وهنا مربط الفرس. إن المتتبع لردة فعلنا، نحن الإعلاميون، ولو في جزء منا، على مثل هذه الجرائم الوحشية والأسلوب الدموي الذي يميز هاته الفئة الضالة سيدرك أننا انسقنا، ولو رغما عنا، الى تحقيق اطماع هؤلاء القتلة. ما قامت به تلفزتنا الوطنية مثلا وتحديدا القناة الأولى عندما بثت مشهدا متعلقا برأس الشهيد مبروك السلطاني لايعد خطأ مهنيا فحسب، بل يرقى الى مستوى «المشاركة» في الفعل الارهابي. نحن ننزّه طبعا الزملاء الذين ارتكبوا هذا الخطأ الفادح من هذا التوصيف، لكن ما وقع صراحة يعتبر استخفافا بمشاعر التونسيين وتعديا صارخا على الكرامة الانسانية. وللأسف فهذه العملية لا تعدّ الأولى من نوعها اذ كلنا يتذكر عملية نشر صور الجنود الذين استشهدوا على يد الارهابيين في جبل الشعانبي قبيل موعد الافطار في رمضان سنة 2013 وما خلفه هذا التصرف اللامسؤول من قبل بعض اعلاميينا من استهجان لدى الرأي العام الوطني على اعتبار ان نشر هذه الصور كان من قبيل التسويق ل «انتصار» الارهابيين على جنودنا. تكرار مثل هذه الممارسات اليوم ليس في تلفزتنا الوطنية فحسب، بل وحتى في بعض الصحف والمواقع الالكترونية من شأنه ان يدفعنا الى التفكير بصفة جدية في طريقة ناجعة لمتابعة او تغطية المسألة الإرهابية على غرار ما تفعله بعض وسائل الاعلام في دول أخرى. لماذا لا نجد مثلا مثل هذه «الانحرافات» في وسائل الإعلام الغربية عندما تتعرض دولهم الى هجومات إرهابية مماثلة وأحيانا أكثر قسوة وضراوة؟ لماذا، وعلى عكس إعلامنا، يسعى إعلامهم دائما الى التخفيف من وقع المصيبة وتحويل الهزيمة الى انتصار معنوي وبسيكولوجي من خلال التضامن بين وكل وسائلهم الإعلامية والالتزام المشترك بطريقة شبه موحدة في تغطية الكوارث والتي يسعون من خلالها تجنب بث صور مهينة للكرامة الانسانية او مشاهد دموية من شأنها أن تحبط العزائم أو أن تبث اليأس والخوف في نفوس الناس ؟ ألا يعُدٌّ ما قامت به احدى الصحف الفرنسية في تغطيتها للحدث الإرهابي الذي هزّ العاصمة باريس نهاية الأسبوع الماضي والذي خلف قرابة 150 قتيلا مثالا يحتذى ؟ لقد وشّحت هذه الصحيفة صورة غلاف عددها الصادر بعد الواقعة بالسواد مع صورة باقة من الزهور ترحّما على أرواح الضحايا وهي رسالة قوية أراد أن يمررها العاملون في هذه الصحيفة والتي تتضمن دعما معنويا للشعب الفرنسي ودعوة للوحدة ضد الارهاب. وغيرها كثير من وسائل الإعلام التي عبّرت على المضمون نفسه وبطرق مختلفة ولم «تنقض» على هذه الفرصة لتحوّلها، كما فعل البعض من إعلاميينا، الى وسيلة للإثارة ولتحقيق ال Buzz بهدف الربح المادي دون اعتبار لمشاعر الناس. نحن اليوم في تونس إزاء عملية تبسيط Banalisation او «تمييع» للمسألة الإرهابية من خلال المساهمة السلبية في انجاح الاستراتيجية الرئيسية للتي تنتهجها هذه التنظيمات الارهابية، ليس في تونس فحسب بل وفي كافة اصقاع العالم وبمختلف انواعها وانتماءاتها. فهاته العصابات «المعزولة» والمنبوذة ليس في ادبياته القتل والذبح والترويع ونشر الفوضى والدمار فحسب، بل ايضا تسعى دائما ان تسوّق «لفتوحاتها» و»غزواتها». هي ترمي وكما قال احد الباحثين المتخصص في المسألة الارهابية «الى جعل الناس تتحدث عنها ولو بطريقة سلبية». هي تسعى اذا ان تكون حاضرة بصفة مستمرة في حياة الناس وأن تبقى الموضوع الرئيسي في مجالسهم وندواتهم. هي تريد، وهذا ما يفعله اعلامنا، ان تشغل الرأي العام وأن تلهيه عن قضاياه الرئيسية كالبناء للمستقبل ومواجهة الفقر والتخلف. هي قوى ظلامية ورجعية وتدميرية وهدّامة، ونحن للأسف نساهم ولو جزئيا وبطريقة لاإرادية في «بناء صرح» لها بيننا. الحرب على الإرهاب هي حرب عسكرية بالأساس، لا شك في ذلك ولا اختلاف، لكن ايضا للإعلام نصيب من هذه المواجهة على هؤلاء الافاكين ومصاصي الدماء. لا يجب ان ننسى ان الحرب الضروس التي يخوضها هؤلاء تعتمد ايضا على الجانب النفسي الذي يلعب فيه اعلامهم الرديء والمنافق دورا رئيسيا. هم لهم اليوم قنواتهم التلفزية والاذاعية وصحفهم الورقية منها والالكترونية ومواقعهم الفايسبوكية النشطة جدا و «الناجحة» ايضا. هم يحتاجون ايضا الى كبواتنا وهفواتنا وزلاّتنا. إعلامنا اليوم في أمس الحاجة إلى انتهاج طريقة جديدة في التصدي لهذه الآفة التي ابتٌلِينا بها. نحن في حاجة حقيقية الى خارطة طريق إعلامية تقينا شر الوقوع في المحظور. ارساء ميثاق شرف اعلامي أو دليل يتم تشريك كل المتدخلين في القطاع لبلورته واعداده والالتزام بكل بنوده اصبح اليوم ضرورة ملحّة وعاجلة لوقف هذا السيل الجارف من الهفوات ولتفادي الانزلاقات الخطيرة. يتوجب علينا اليوم ان نتحول من باث سلبي لرأس «الراعي» الى فاعل رئيسي في القضاء على الذئاب.