أحدث الكتاب الأسود جدلا كبيرا داخل السلطة, ما رأيكم في تصرف الرئيس محمد المنصف المرزوقي و لمذا تصرف على هذا النحو؟ في إطار رسم مسار مؤسساتي عادل سقط الكتاب في الإستغلال السياسي و إنسلخ عن هدفه الأساسي المتمثل في تفكيك نظام الدعاية في عهد بن علي و بالتالي فقد أثار هذا الكتاب جدلا تحول إلى هيستيريا. إن الحق في معرفة الحقيقة هو حق مقدس و نحن نكن للشعب الحقيقة, لا شيئ غير الحقيقة دون حذف و دون فبركة. فللمواطنين الحق في معرفة ما كان يدبر في ظل النظام السابق و الأشخاص المتورطين و كيف كانوا يشتغلون. لقد حان الوقت للقطيعة مع قانون الصمت و مع منطق الوصاية على المواطنين. انا لست من أسرار القصر و لكن أعتقد ان حملات التشويه و الشتم كانت دائما تتجاوز المرزوقي خاصة من قبل دعائي الديكتاتورية المعروفين الفاقدين لكل سمات الإحترام و الأخلاق الذين أصبحوا متغطرسين في سياق لم يعودوا يدركون فيها إرتزاقهم الإعلامي أو الإمتيازات التي إنتفعوا بها كمكافاة على جرائهم و ذلك على حساب الجماعات الوطنية. لقد أثبتت الهياكل الحرفية و بالتحديد النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين فشلها حتى انهم قد قاموا بتوفير الحماية و الدفاع لفائدة مرتزقة الصحافة خلال نظام بن علي هذا بالإضافة إلى أولاءك الذين ثبتت إدانتهم بتهمة إنتهاكاتهم لأخلاقيات المهنة كما أنهم قد فضلوا الهيمنة الضيقة للنقابات التي تجعل هذه "الطبقة الجديدة" فوق المحاسبة القانونية و أنكروا الأجندات الثورية للحفاظ على مصالح اللوبيات. لكن الفشل الأكبر يتأتى من السلطات العامة ( المجلس الوطني التأسيسي و الحكومة) التي مرت مرور الكرام على محور أساسي من محاور أجندات الثورة و الذي يتمثل في العدالة الإنتقالية و إعتقدت أنه يمكن إنجاح الإنتقال من خلال التخلي عن المحاسبة على جرائم الماضي.
. نرى أنه فيما يتعلق بقضية جرحى الثورة و الشهداء أن نقص الأدلة قد عطل إجراءات القضية و أن التقارير الباليستية غير موجودة فعلى سبيل المثال هل يعتبر إفشاء الأرشيف طريقة للحد من إخفاء هذه التقارير؟ لقد قمتم بالإشارة إلى مسألة أساسية إذ أن ما ينقص لإثبات الحقيقة ليست الأدلة بل السبيل للحصول على هذه الأدلة فقوات الأمن (الشرطة و الجيش) لديهم الحرية الكاملة في التصرف في القوانين السارية المفعول و هو ما يسمح لهم بالإمتناع عن تقديم هذه الأدلة للعدالة و ذلك بالإختفاء تحت غطاء أسرار الدولة و ذريعة الأمن العام. و لكن من يحددون هذه الأسرار هم غالبا ما يكونون الأشخاص اللذين لديهم مصالح في إخفاء الحقيقة. . مثلا في حالة الأرشيفات الحساسة مثل تلك الموجودة داخل وزارة الداخلية هل نعلم مصير هذه الأرشيفات؟ هل هناك ضمان على أنها محفوظة و محمية؟ لقد كانت فترة ثلاثة سنوات كافية لإستغلال هذه الأرشيفات و إتلافها أو سرقتها. فلقد شاهدنا على قناة الوطنية الأولى في شهر ماي 2011 سلسلة وثائقية تحمل عنوان "دولة الفساد" رأينا من خلالها أين و كيف وقع إتلاف هذه الأرشيفات هذا و قد قامت حكومة قايد السبسي في تلك الفترة بترك هذه المسألة و بالإعلان عبر الناطق الرسمي بإسم وزارة الداخلية أن الأرشيفات محمية بشكل جيد. غير أنه لم يقع إتخاذ أي تدابير حماية أو حفظ لما تبقى من هذه الأرشيفات كما لم يقع معافبة أي متهم بل على العكس و في نهاية شهر ماي 2011 وقع إختطاف مدير الأمن سمير غرياني من أمام منزله ثم وقع محاكمته في المحكمة العسكرية و ذلك لإفشائه عن جملة من الأسرار من بينها عملية إتلاف أرشيف البوليس السياسي و هي الحقائق التي دعمته بقوة أمام المحكمة. لقد كانت مسألة أرشيف الديكتاتورية موضوع حذف مستمر من قبل مختلف الحكومات التي تلت سقوط نظام بن علي. فقد وقع سرقة و بيع و إتلاف و حتى مسح الأرشيفات و ذلك بشكل غير قانوني و دون إثارة قلق المكلفين على رأس الدولة خاصة خلال الأشهر الاولى من الثورة. بل في أفضل الحالات مثلت هذه الأرشيفات موضوع إبتزاز للأشخاص المهددين بالمحاسبة و رغم ذلك فقد تبقى لنا الأرشيف الوطني الذي حصد العديد من الوثائق و كذلك "اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد و الإختلاس" التي يترأسها في الوقت الراهن المحامي سمير عنابي و التي لم تعرف بنفسها بشكل كافي. و لكن من المهم معرفة أنه مهما أتلف الأرشيف ستكون هناك وسائل لإرباك المتهمين أمام عدالة منصفة متى وجدت الإرادة السياسية. و يعتبر التغلب على إغراءات الثأر و الإنتقام خير سبيل لتحقيق أي إنتقال ديمقراطي. و يرتبط العنف المتفشي بشكل وبائي إرتباطا وثيقا بالنقص في الحقيقة و العدالة. هذه المسألة اليوم هي من بين المستجدات الساخنة بالنسبة للتونسيين و في هذا السياق لدي إنطباع بأن هذه اللوبيات تعمل جاهدا على نشر نوع من فقدان الذاكرة الجماعي و على تحطيم الذاكرة و تظليلها. . هل تعتقدون أن المناخ السياسي الحالي يعطل من نسق مسار العدالة الإنتقالية؟ ليس المناخ الذي يلعب دور المعطل بل هو غياب الإرادة السياسية الذي يشكل الخلل و في إنتظار إنطلاق هيئة "حقيقة و كرامة" في العمل فلا شيء يمنع اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد و الإختلاس و التي بحوزتها الجزء الأكبر من أرشيف الرئاسة الذي وقع جمعه بعد بضعة أيام من هروب بن علي من العمل على كشف الحقيقة من خلال نشر تقارير إستقصائية وقع إعدادها منذ ثلاثة سنوات عبر تمشي مؤسساتي ساعد على تجنب عبث مصلحة الصحافة بالرئاسة دون قانون أو منهجية بقاعدة الوثائق التي تفتقر إلى للمعلومات و السقوط في تصفيات الحسابات من بينها ضحسابات حايا النظام السابق. . كان هذا موضوع كلامنا لأكثر من سنتين و لكن مالذي حدث بالتحديد على أرض الواقع؟ في الواقع لم يحدث أي شيئ بل عوضا عن كشف الحقيقة فقد تضاعفت العصابات و حملات التشويه ضد الأطراف التي كانت تطالب بالتسريع في مسار العدالة الإنتقالية و فتح الأرشيف الذي يمثل حجر الأساس بالنسبة للعدالة الإنتقالية و ذلك بترويعهم و إرهابهم بل و الأسوء من ذلك فالأشخاص الذين كانوا يطالبون بهذا الحق و من بينهم انا وقع إتهامهم بإمتلاك هذا الأرشيف و بالنفاذ إليه بشكل غير قانوني. كل هذه الحملات حول النفاذ إلى الأرشيف الذي قمت به خلال فترة وزارة الراجحي تجعل من هذه المحاولة مثالا لإفشال أي مبادرة وطنية في هذا الإتجاه. فحتى الوزير الراجحي نفسه لم يكن له الحق في النفاذ إلى أرشيف البوليس السياسي. لقد عرض علي في بداية الثورة "شراء" الأرشيفات التي تهمني و لكن رفضت بالطبع و أجبت "بأنني لا أرى نفسي في هذه الثورة التي تباع فيها الحقيقة و تشترى و التي لا امثل فيها الهدف الوحيد و لكن حتما ستكشف الحقيقة يوما ما". إن دوري في المجتمع المدني هو كشف الحقيقية و هم ما أسعى إليه من خلال المطالبة بالعدالة الإنتقالية التي أكرس من خلالها إيماني بالمسار المؤسساتي.