يبدو أنّ معاشرة الكراسي لا تسبب فقط تخشّب الأطراف واللسان ولا تنتج خطابا خشبيّا برائحة الرطوبة والسوس، ولكن - وكما يحدث في قصص ألف ليلة وليلة – تسحر الجالس عليها وتجعله جزءا منها أي من خشبها من القدمين وحتى الرأس. كنّا قد تعوّدنا منذ زمن الزعيم الأوحد الفاعل بأمره والمخلّص الأوّل والمجاهد الأكبر برنّة الخشب في خطابنا الرسميّ، بل أصبح لرنين صوت وزرائنا ومسؤولينا وصحفنا الرسمية وأشباهها إيقاع مألوف في آذاننا، تعوّدناه وهدهدتنا حدّ النوم ترنيماته أطفالا حتى كبرنا. وحين هلّ علينا العهد السعيد، كانت أولى البشائر التي احتفلنا بها واحتفينا بآثارها أن انطلقت الألسن من عقالها الخشبيّ، وزال السحر وانفكّ الطلسم عن الأفواه، وارتفعت العقائر تتحدّث عن محرّمات الأمس في انتشاء. لكنّ فرحتنا لم تدم طويلا فسرعان ما غلب الطبع التطبّع لدى رجال دولتنا الموقّرين وعلى رأسهم – ولم يكن آنذاك رأسهم خشبيّا بل من لحم وعظم ودم يخشون أن يعبث به سيف مسرور – رأس الدولة فعدنا إلى حظائرنا سالمين راضين من الغنيمة بالإياب، وعاد الخشب يقرقع ويهدهد ليلنا ويكرّر علينا ترنيمته الرتيبة التي حفظناها وإيقاعاته المملة التي لم تعد تقنعنا بجدّيّة ما يقال. وكلّما ارتفعت أصواتنا مطالبة بخطاب جديد، منفتح، مختلف، متحضّر، خطاب يطرح حقائق الأمور ويسعى لإصلاحها، لم تواجهنا الألسن الخشبيّة بل هراوات الخشب والأذرع المصقولة. نعم تعوّدنا وقع الخشب على آذاننا وعلى رؤوسنا وضلوعنا وأرجلنا، تعوّدنا السير بأقدام مغلولة في قباقب الأمن الذي أصبح شعار الدولة وعنوانها الأوّل ووتد خيمتها. لكن التخشّب قد استفحل في جسد سلطتنا ك"الغانغرينا"، جرثومته بلغت الرّأس الذي أصبحت تنديدات العالم تقرع خشبه وترتدّ محدثة دويّا أجوف ميّتا. رؤوس الخشب لا تستجيب لأيّ مؤثّر عصبيّ، تلك علامات التخشّب المزمن في آخر مراحله يخبرك عنها أطبّاء الاختصاص. أمريكا، درع النظام ووليّة حياته ووجوده، استغربت وعبّرت عن قلقها إزاء تدهور الأوضاع السياسية و"تراجع" الديمقراطية التي غازلت بها الرشّاش والدبّابة. أجابها رنين خشبيّ اكتفت صحفنا المحلّيّة بترديده، لم يكن يغني ولا يسكت جوعا، جوع بني تونس للديمقراطية الحقيقية، جوعهم لإصلاحات صلب الجسد المنهك والمتسوّس للدولة. فرنسا، أعلنت عن قلقها بل استنكارها، فأجابتها حملة خشبيّة الطعم واللون والرائحة، واشتعلت صحفنا الرسميّة وشبه الرسمية حميّة ودفاعا عن حرمة الوطن واستقلاليته، بل طالب أشاوس البلاد وأبطال الكرّ والفرّ (والثانية أصحّ) بتعويضات عن فترة الاستعمار على غرار شقيقتنا الكبرى في التخشّب ليبيا. بلجيكا بدورها، عبّرت عن استنكارها لوضع حقوق الإنسان وحرية الصحافة في تونس، فأطلقوا عليها النار، عفوا نثار الخشب. ولقد كان على السفير الجديد لفرنسا أن يحمل رأس خشبيّة يتّقي بها تقريع رئيسنا حين استقبله يوم الخميس لتلقّي رسالة اعتماده في تونس. أمتعه لحظتها بخطاب رنّان من تلك الخطب التي بقيت صناعة وطنيّة وحكرا على التونسيّين ولم تدخل سوق الشراكة وبوّابة التصدير، تلك اللغة التي قد تبدو لرجل قادم من بلاد الحرّيّات أشبه بخطبة الحجّاج بن يوسف الثقفي البتراء، ومن يدري لعلّه رقص فرحا بنجاة رأسه الذي لم يقطف. لكن يبدو أنّ التخشّب الذي أصاب الرأس أصاب العينين والأذنين وبقيّة الحواسّ والمدارك، فنسي القوم (أو القوّامون علينا) أننا هنا قد مللنا من الخطاب الخشبيّ ومن تخشّب الفكر والسياسة ومن السوس الذي نخر جسد الوطن ومن تذيّلنا أسفل السلالم بين الشعوب، ومن تذيّلنا – وليس في الأمر تكرار – وتخشّب رؤوس رؤوس دولتنا. فرؤوسنا إن لم تتفطّنوا لحم ودم وعظم وعقل وأحلام بواقع أفضل. فكفانا قرعا على الخشب، واهجروا كراسيكم لتفطنوا أنّ الوقوف صحّيّ... للجميع.